7ولمزيد من التعرّف على أسرار الحجّ، لابدّ من الرجوع إلى عادات وسيرة الحجّاج الصالحين الحقيقيّين؛ أعني المعصومين (عليهم السلام) ؛ لوضع حجّهم تحت مجهر المطالعة الدقيقة والتأسّي بهم في ذلك؛ لأنّ هؤلاء كانوا يراعون - مع الآداب والسنن والفرائض والأعمال الظاهريّة للحجّ - العناصر التكوينيّة التي تقوم عليها هذه الأعمال.
ويظلّ استذكار هذا الأمر مفيداً، وهو أنّ سرّ الكثير من العبادات غير مخفيّ ولا مستور عن القائمين بها، إلاّ أنّ فهم أسرار مناسك الحجّ يبقى أمراً عسيراً وشاقّاً، فالكثير من أسرار الحجّ يصعب شرحها بالعقل البشري أو لا يتيسّر ذلك أساساً؛ من هنا احتوت مناسك الحجّ عبوديّة محضة وتامّة، منسجمة مع التعبّد الشديد الزائد عن أمثاله في سائر الأحكام الدينيّة، تماماً كما قال رسول الله (ص) عند التلبية: «لبّيك بحجّة حقّاً تعبّداً ورقّاً» (36) .
التناغم بين سيرة الحاجّ وسرّ الحجّ
عدّ الله سبحانه الحجّاج والمعتمرين من شعائره؛ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً (37) ، فالحاجّ عندما يعزم على زيارة البيت يغدو جزءاً من الشعائر الإلهيّة.
نعم، من الواضح أنّ الذي يقصد من سفر الحجّ والعمرة، السياحة والتجارة والشهرة وما شابه ذلك، لا يكون ضمن الحُرمات الإلهيّة.
إنّ الزوّار المدعوين من جانب الحقّ سبحانه واللائقين بالتكريم الإلهي هم الواجدون للشروط والأوصاف الخاصّة، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الأوصاف تارةً بنحو العموم، واُخرى بذكر مصاديقها.
أمّا الشرائط العامّة فقد ذكرها في العهد الذي عهده إلى باني الكعبة ومساعده - أي إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) - حين قال: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (38) .
وطبقاً للآية الشريفة: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِن اللهِ وَرِضْوَاناً (39) ، فإنّ مصداق «الركّع السجود» الذين أمر الخليل والذبيح (عليهما السلام) بتطهير البيت لضيافتهم، هم الاُمّة الحقيقيّة لرسول الله (ص) ، الذين يملكون - إلى جانب الصلاة والركوع والسجود - الصلابة الإبراهيميّة ضدّ النمروديين ورؤوس الكفر والنفاق والطغيان، كما لديهم رأفة خليل الرحمن بالمسلمين المحرومين في أنحاء العالم الإسلامي.
بناءً عليه، فمَن كان ملوّثاً بالفكر الباطل أو العمل الطالح لن يكون ضيفاً للبيت الطاهر، فليس الساعي وراء الامتيازات والمقامات والمناصب ضيفاً لبيت المساواة والمواساة، وليس عبد الهوى أو عبد المستكبرين والملحدين ضيفاً للبيت العتيق الحرّ، بيت الحرية والأحرار، وليس من لديه مئات الأصنام بضيفٍ على بيت التوحيد، ومن وجّه وجهه للخلف وأدار ظهره للقبلة مصلّياً صلاته لا يكون ضيفاً على قبلة المسلمين، ومن وضع مكان التبرّي من الشرك والنِّفاق والكفر، الولاية لرموز الإلحاد كيف يكون ضيفاً على مطاف العاكفين؟ ! فليس من يخضع للاستعمار بضيف على بيت الراكعين والساجدين، ليس كلّ حاجّ بعارف لأسرار الحجّ، أو بممتثل للحجّ الكامل، إنّما هم الحافظون للسرّ الإلهي ولمخازن العلوم الربّانية من يطّلع الله على أسراره ليحفظوها، فهم مطّلعون على سرّ الحكم ويصلون لهذا السرّ.