6أمّا تقوى الأحرار التي لا تنشأ من خوف النار ولا طمع الجنّة، وإنّما من محبّة الله سبحانه، فإنّها تستمرّ بهم إلى لقاء الله، فيصلون إليه، لما عندهم من الزاد، فالتقوى التي تنال الله تعالى ليست صفةً منفصلة عن روح المتّقي وذاته، فصاحبها متّق يحظى بلقاء الله.
إنّ سفر الحجّ للزائر الذي وصل للمقصد وعثر على مقصوده في ذلك المقصد ثمّ رجع، هو سفرٌ «من الحقّ إلى الخلق بالحقّ» ، وهذا المسافر لديه سفر نفسي إلى جانب السفر الاُفقي والآفاقي، وهو يدرك أنّ الله تعالى معه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ (30) ، إنّ مثل هذا الزائر يرجع إلى دياره ومعه مضيفه نفسه (31) ، بنورانيّة تجعله كأنّه ولد من اُمّه من جديد «مَن أَمَّ هذا البيت حاجّاً أو معتمراً مبرءاً من الكبر، رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته اُمّه» (32) ، والناس مكلّفون بزيارة مثل هذا القادم من سفر الحجّ قبل أن يتلوّث حجّه بأيّ معصية أو ذنب، فينالون بذلك من النور الإلهيّ لِحجَّتهِ (33) .
تزكية الروح في ضوء معرفة الأسرار
يقع قسم مهمّ من تزكية النفوس في ضوء معرفة أسرار العبادات والأحكام الدينيّة، إنّ تعليم الكتاب والحكمة الوارد في الآية الشريفة: يُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (34) ، مفهوم يستوعب العقائد والأخلاق والأعمال العباديّة، كما يستوعب أيضاً القضايا الاقتصاديّة، والسياسيّة، والعسكريّة، وما شابهها، من هنا فالتزكية المذكورة في هذه الآية أتت أيضاً لبيان باطن هذه الاُمور كافّة، وكما أنّ تزكية أيّ عمل تكون بنيل أسرار ذلك العمل، فإنّ أيّ عمل له سرّ، يكون الاهتمام به أساساً لتزكية الروح.
والحجّ مثله مثل سائر العبادات والآداب والسنن والفرائض، جاء لتهذيب النفس، فمحرّمات الحجّ جاءت لتطهير القوى التي تتورّط أحياناً بالمعاصي والمهلكات. كما أشارت الآية الشريفة: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الْحَجِّ) (35) ، إلى ثلاثة محرّمات في الحجّ، يتعلّق كلّ واحد منها بتطهير قوّة من القوى الإنسانيّة، ف- (لا رفث) تنظر إلى تطهير القوّة الشهوانيّة، و (لا فسوق) لتطهير القوّة الغضبيّة، و (لا جدال) لتهذيب القوى الفكريّة.
وبطهارة هذه القوى الثلاث تطهر جملة أعمال الإنسان؛ لأنّ أيّ عمل يصدر من الإنسان يرجع بالتحليل الدقيق إلى هذه القوى الثلاث، وتفصيل هذا البحث موكول إلى علم الأخلاق.
والجدير بالذِّكر أنّ أيّ عمل إنّما يصدر من مصدر خاصّ ويحكي عن خصوصيّاته، فالصدر المشروح يصدر عنه عمل خالص ومشروح، غير مبتلى بنقص ولا ملوّث بعيب؛ وعلى هذا الأساس فإنّ زائر بيت الله الحرام، يغدو حجّه خالصاً وخلوصاً ومشروحاً أكثر بتبع درجة معرفته بأسرار الحجّ نفسه؛ لأنّ الخلوص الذي هو معيار الاستفادة من الثواب، وشأنٌ من شؤون العقل العملي، مسبوقٌ بالمعرفة؛ والمعرفة من شؤون العقل النظري، فعلى السالك - في البداية - أن يفهم المراحل العباديّة ويعيها، حتّى يكون لديه في مقابل فهمه ومعرفته إقدامٌ خالص على الفعل.
إذن، فبدون التعرّف على أسرار الأعمال لن يتيسّر طيّ مراحل الإخلاص كاملةً، وهذا الأمر صادق في حقّ التعرّف على أسرار سائر العبادات أيضاً.
وعليه، فعندما يشرع شخص - قبل التعرّف على أسرار الحجّ - بالسفر إلى بيت الله، فحجّه وإن كان يمكن أن يكون صحيحاً بحسب الظاهر، إلاّ أنّه بذلك لم يحقّق الحجّ الكامل والمقبول، ولم تكن الضيافة من نصيبه؛ لأنّ روح إقامة الحجّ لم تتعالى عنده بسبب عدم اطّلاعه على أسرار هذه الفريضة.