39وهذا الاحتكاك والتماسّ يؤدّي إلى مجموعة من الأعراض المرضيّة في أخلاق الناس وعلاقاتهم؛ مثل الحسد، وسوء الظنّ، والبُخل، والشحّ، والاستئثار، والاختلاف، والعدوان، والمكر، والكيد بالآخرين، وما يتّصل بذلك من سوء الأخلاق في العلاقات الاجتماعيّة.
إنّ المال يُفسد أخلاق الناس، ويُفرِّق شملهم، ويُفسد علاقاتهم، ويُثير بينهم الحسد والبغضاء والعدوان.
وعلاجه الزُّهد في الدُّنيا، ومكافحة حال التعلّق بالدُّنيا، حتّى يكون المال تحت سلطان صاحبه، ولا يكون صاحب المال تحت سلطان المال، عندئذ تنتفي الآثار السلبيّة التي يتركها (المال) و (الموقع) في علاقات الناس الاجتماعيّة.
سعي الإنسان بين (السوق) و (المسجد)
إنّ ساحة الحياة تنشطر إلى شطرين:
شطر في علاقة الناس بالله في صلاتهم وصيامهم وحجّهم وذِكرهم لله، وفي التقوى والطاعة، والولاية لله. وشطرٌ في حركتهم في السوق، والمزرعة، والسياسة، والإعلام، وحقول المعرفة، والعلاقات الاجتماعيّة، والحياة الزوجيّة، وما يؤمِّن معيشة الإنسان، وعلاقاته الاجتماعيّة والعائليّة.
ونرمز إلى ساحة عمل الناس في الشطر الأوّل ب- (المسجد) ، ونرمز إلى ساحة عمل الناس في الشطر الثاني من الحياة ب- (السوق) ، فإنّ المسجد أكثر المواقع التي يجمع ويضمّ اهتمامات الإنسان وأعماله وكدحه من الشطر الأوّل. والسوق أبرز المواقع التي تستقطب اهتمامات الإنسان وسعيه من الشطر الثاني.
والمقارنة بين هاتين البؤرتين في حياة الإنسان تؤدّي إلى نتائج غريبة:
أ - إنّ المسجد يُصلِح نفوس الناس ويهديهم، والسوق يُفسد نفوس الناس وأخلاقهم.
ب - المسجد يُقرِّب الإنسان إلى الله، والسوق يُبعد الإنسان عن الله.
ج - المسجد يُلطِّف العلاقات الاجتماعيّة فيما بين الناس على أساس المحبّة والتعاون وحسن الظنّ والنصيحة. أمّا في السوق فيتعامل الناس مع بعضهم بعضاً على أساس الحسد، وسوء الظنّ، والاستئثار، والاستغلال، والبغضاء، والمكر. . .
د - المسجد يجمع شمل الناس ويوحّدهم، والسوق يفرِّقهم ويشتّتهم.
وهكذا نجد أنّ هاتين البؤرتين اللّتين تجمعان وتستقطبان اهتمامات الناس وسعيهم وأعمالهم وجهدهم تقعان في قطبين مختلفين.
وليس ما ذكرناه من المقارنة بين خصائص كلّ من (المسجد) و (السوق) قاعدة رياضيّة لا تختلف ولا تتخلّف، ولكنّها هي الطابع الغالب والصيغة الغالبة لكلّ من المسجد والسوق.
وقد ذكرنا إنّا نرمز بالسوق إلى المواقع التي تستقطب اهتمامات الإنسان للحياة الدُّنيا وسعيه فيها، ونرمز بالمسجد إلى المواقع التي تستقطب اهتمامات الإنسان وكدحه وسعيه إلى الله تعالى، فلا نُعيد.
ولا غنى للإنسان عن السوق، كما لا غنى له عن المسجد، بل لا يتمكّن الإنسان من أن يرقى من المسجد إلى الله، إلاّ أن يكون السوق الباب الذي يدخل منه الإنسان إلى المسجد، فمن السوق يرقى الإنسان إلى المسجد، ومن المسجد يرقى إلى الله. . . وهذا هو سرّ اهتمام الإسلام بعمارة الحياة الدُّنيا والاهتمام بها، والتصريح بأنّ الدُّنيا مزرعة الآخرة، وأنّ الدُّنيا متجر أحبّاء الله، والأمر بالعمل والسعي في الدُّنيا، والنهي عن البطالة والرهبانيّة، والتحذير من الفراغ والكسل.
تهذيب السعي