36وخطّ العبادة هو الخطّ الصاعد إلى الله تعالى من ذِكر، وحمد، وشكر، وثناء، وصلاة، وصيام، وحجّ، وإنفاق، وتبتّل، وتضرُّع، وبكاء، وخشية، وشوق، وولاء، وطاعة. . . وهذا هو الخطّ الصاعد في علاقة الإنسان بالله وهو خطّ العبادة.
والخطّ الثاني خطّ الاستعانة، وهو الخطّ الذي يستنزل به العبد رحمة الله تعالى ورزقه إليه، مثل التوكّل على الله، والدُّعاء، والاستعانة، والاستعاذة، والتوبة، والاستغفار، وكل ما يستنزل رحمة الله تعالى على عبده من رزق، وموهبة، وشفاء، وعلم، وخير، وعفو، ومغفرة، ونصر.
وعلاقة الإنسان بالله تعالى كلّها تتلخّص في هذين الخطّين: الخطّ الصاعد (العبادة) ، والخطّ النازل (الاستعانة) .
وإليها يشير قوله تعالى في سورة الحمد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (75) .
وهذان الخطّان؛ الصاعد والنازل، من التوحيد، الذي لا يجوز فيه الشرك، والدليل على ذلك تقديم المفعول (إيّاك) على الفعل (نعبد، نستعين) ، وقد ذكر علماء العربيّة أنّ تقديم المفعول على الفعل يدلّ على الحصر.
وبناءً عليه فإنّ العبادة والاستعانة في هذه الآية يدخلان كلاهما في مقولة التوحيد. والناس يعرفون التوحيد في العبادة فقط، دون الاستعانة.
ولكن التوحيد الذي يدعو إليه القرآن توحيد في العبادة والاستعانة معاً، وهو أن لا يُشرك الإنسان بالله تعالى في العبادة، كالشكر، والصلاة، والصيام، والذِّكر. كما لا يُشرك به تعالى في الاستعانة مهما توثّقت العلاقة بينه وبين الأسباب المادّية؛ من مال، وإعلام، وقوّة، وعلم. فيجب عليه أن يَحْذَر كُلّ الحذر من أن تحجبه هذه الأسباب عن المسبِّب الحقيقي والمبدأ الأوّل لكلّ سبب في هذا الكون وهو الله تعالى.
وأساس التوحيد في الاستعانة: البصيرة، والمعرفة بالله من جانب، والثقة بالله تعالى من جانب آخر.
فإذا ضعُفت بصيرته بالله بسبب الاحتكاك الدائم والتعامل المستمرّ مع الأسباب المادّية في الحياة الدُّنيا ضعفت استعانته بالله، واختلط عنده التوحيد بالشرك في واحد من اثنين من خطّي العلاقة بالله.
وتلك خسارةٌ كبيرة في حياة الإنسان لا يعوّضها شيء مهما استفاد الإنسان من الأسباب المادّية التي يتعامل معها.
وبناءً على هذا الوعي القرآني للسعي، فإنّ كلّ سعي للإنسان في الدُّنيا يجب أن يكون من مقولة التوحيد.
فإنّ سعي الإنسان الراشد في الدُّنيا لا يخلو إمّا أن يكون من الخطّ الصاعد إلى الله، وهو العبادة في (إيّاك نعبد) ، أو يكون من الاستعانة بالله في السعي للدُّنيا والآخرة، وهو (إيّاك نستعين) ، وهو من الخطّ النازل في علاقة الإنسان بالله.
وليس للإنسان سعيٌ راشد آخر غير هذا وذاك.
وفي كلّ منهما لابدّ أن يوحِّد العبد الله تعالى، في العبادة وفي الاستعانة معاً؛ فلا يطلب في العبادة إلاّ وجه الله تعالى، وهو التوحيد في العبادة (إيّاك نعبد) ، ولايستعين في سعيه في الدُّنيا، للدُّنيا وللآخرة، بغير الله تعالى وهو (إيّاك نستعين) ، إلاّ أن يؤمن أنّ ذلك في امتداد الاستعانة بالله، وليس نِدّاً لله، ولا ضدّاً له.
إذن، كلّ سعي للإنسان في الدُّنيا يجب أن يكون توحيداً لله. . . وليس يجوز للإنسان الشرك في سعيه في الدُّنيا، سواءً كان سعيه عبادةً لله، أم إستعانةً بالله في سعيه للدُّنيا أو الآخرة.
فإذا سعى إلى الطبيب كان سعيه إليه في امتداد استعانته بالله، وليس في عرضه. وإذا سعى إلى السوق كان سعيه في امتداد استعانته بالله للرزق، وليس في عرضه، وليس السوق إلاّ سبباً سخّره الله تعالى لعباده في الرزق. . . وهذا الوعي من مراتب وعي التوحيد، وقليلٌ من الناس يعي التوحيد بمثل هذا الوعي في صلاته كلّما قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
ضمان الذِّكر