32
3- الذِّكر والسعي
إنّ السعي عند كثير من الناس يشغلهم ويحجبهم عن الله؛ لأنّهم في سعيهم يعتمدون الأسباب المادّية ويتوسّلون بها إلى حاجاتهم. . . وهو حقّ، فإنّ الله تعالى قد جعل لكلّ شيء سبباً، فإذا طلب الإنسان الرزق، فلابدّ أن يطلبه من أسبابه، ومن أسبابه التجارة، والسوق، والكدح في الأسواق، وإن طلب النصر فلابدّ أن يطلبه من أسبابه، وإذا طلب الشفاء والعافية فلابدّ أن يطلبهما من أسبابهما، وهذا حقٌّ كما ذكرنا، ولكن هذه الأسباب لا تزيد على أن تكون أسباباً مباشرة للأشياء، ومسبّب هذه الأسباب هو الله تعالى، والله خالقها وجاعلها، وهو وليّ التوفيق يهبُ التوفيق لمن يشاء، ويسلب التوفيق عمّن يشاء، يهب الرزق لمن يشاء (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ) (53) ، ويقطع الرزق عمن يشاء.
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ (54) .
يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ (55) .
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (56) .
وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ (57) .
وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيراً (58) .
إذن الرزق، والشفاء، والنصر، والعلم، والتوفيق من عند الله تعالى فحسب، وهذه الأسباب مسخّرة لله يخلقها ويعدمها، ويضعها حيث يشاء، ويرفعها من حيث يشاء (59) ، وهي لا تزيد على أن تكون مفاتيح إلى خزائن رحمة الله ورزقه.
والأسباب ليست أنداداً لله، ولا أضداداً له في سلطانه وملكه، وإنّما هي مخلوقات له، مسخّرات بأمره. . . يهبُ منها مَن يشاء ما يشاء.
وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب (60) .
وَاللهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ (61) .
يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ (62) .
وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ (63) .
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ (64) .
يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ (65) .
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ (66) .
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ (67) .
وهو الحاكم على الأسباب، وليس محكوماً لها.
والتصوّرات في هذه المسألة ثلاثة؛ منهم من يقرأ آي الكتاب، في حاكميّة الله وسلطانه، فيلغي الأسباب إلغاءً كاملاً، وينفي قانون العلّية والسببيّة مطلقاً، وهو وهم، يخالف القرآن والعقل.
ومنهم من يحكّم هذه الأسباب على مشيئة الله وإرادته ويعتقد أنّ الله تعالى هو خالق الأسباب، ولكن هذه الأسباب تعمل باستقلال، بعد أن خلقها الله، وليس لله تعالى بعد أن خلق الأسباب أن يتصرّف في هذا الكون، ويبسط الرزق لمن يشاء ويُقَدّرُ على مَن يشاء، ويهب الملك والرزق والنصر لمن يشاء، ويمنعه عمّن يشاء وهؤلاء هم اليهود، كانوا يقولون، كما يحدّثنا القرآن: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ (68) .
وهذا هو التصوّر الثاني، يشجبه القرآن ويلعن قائليه.