31
وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِى أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (50) .
والفرق بين المنطقين في هذا الحوار المتبادل بين صاحب الجنّتين، وصاحبه الفقير (الأقلّ مالاً وولداً) :
أنّ صاحب الجنتين عندما وجد نفسه أكثر مالاً وأعزّ نفراً لم يعرف فضل الله تعالى، ولم يذكر فضل الله تعالى عليه في هذه الكثرة والعزّة، وإنّما رأى نفسه فقط أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ، وهذه (الأنا) هو الحجاب الأعظم الذي يحجب الإنسان عن الله.
ولكن صاحبه (الأقلّ مالاً وولداً) ينبّهه إلى خطئه، فيقول له: لو كنت ترى في هذه الكثرة والعزّة التي رزقك الله مشيئة الله وقوّته تعالى ورحمته ورزقه، ولا ترى نفسك حيث وجدتني أنا أقلّ منك مالاً وولداً. . . كان هو الصواب وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِى أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً .
إنّ (السعي) الذي أوصل صاحب الجنّتين إلى الكثرة والعزّة والتقدّم على صاحبه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً لم يكن إلاّ مدخلاً إلى ابتغاء رحمة الله تعالى ووسيلة إلى ابتغاء الكثرة والعزّة من عند الله. . . وأمّا الكثرة، والعزّة، والحول، والقوّة، والمال، والثروة، والشفاء، والنصر، والحول، والسلطان، فلا يكون إلاّ من عند الله. . . وليس للعبد إلاّ أن يطلبه من عند الله بسعيه وحركته.
وهذه هي الرؤية التوحيديّة للسعي. وأمّا الرؤية الاُخرى التي كان يرى بها صاحب الجنّتين جنّتيه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً فهي من الشرك إن لم يكن هي الكفر بعينه. والفاصل بينهما كبيرٌ وشاسع.
2- الإخلاص في السعي:
إنّ سعي الناس لشتّى - ولكن السعي الذي ينفع الإنسان في الآخرة ويتكامل به في الدُّنيا والآخرة هو السعي الذي يخلص فيه الإنسان لله تعالى.
هذا السعي هو الذي يُقرّبه إلى الله، وهو الذي يتقبّله الله، وقد روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: «إنّ الله لا يقبل من العمل إلاّ ما كان له خالصاً، وابتغ (وأُبتغي) به وجهه» (51) .
وليس الإخلاص فقط في العبادات كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة، بل ينبغي أن يكون الإخلاص في كلّ سعي للإنسان، حتّى فيما يتعلّق بمعاشه وحياته العائليّة واُموره الشخصية. . . فإنّ من الممكن أن يؤدّي الإنسان كلّ ذلك، وهو ينوي فيه وجه الله تعالى، وابتغاء مرضاته. قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى للهِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (52) .
والذي يلفتنا في هذه الآية إنّ الله تعالى لم يأمر نبيّه (ص) أن يخلص له في صلاته ونسكه، بل أمره بالإخلاص في حياته ومماته وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى ، وهي مساحة واسعة جدّاً، بل هي كلّ مساحة حياة الانسان.
ولقد كنّا نجد في عباد الله الصالحين من إذا طلب منه أحد شيئاً استمهله حتّى تحضره النيّة.
فإذا انقلب سعي الإنسان كلّه إلى ابتغاء وجه الله الكريم كان سعيه كلّه عبادة، وحياته كلّها عروجاً وقُرباً إلى الله.
أُولئك هم الذين يعيشون في وسط الناس، كما يعيش سائر الناس، في الأسواق، والدوائر، والبيوت، والمتاجر، والمعامل، والمصانع، والمزارع، ولكن قلوبهم عند الله، وغايتهم هي ابتغاء وجهه الكريم، واُولئك يتقبّل الله تعالى سعيهم في الحياة الدُّنيا كلّه؛ لأنّ سعيهم كلّه لله تعالى.
وفي هؤلاء يصحّ أن نقول: إنّ هؤلاء يعيشون مع الناس، وليسوا مع الناس، يختلطون بالناس كما يختلط الناس بعضهم ببعض، ولكن بأجسامهم، أمّا قلوبهم فلم تفارق الله تعالى لحظةً واحدة.