27ولكن الدُّنيا دار سعي، سعي في الدُّنيا للدُّنيا، وسعي في الدُّنيا للآخرة.
ونتساءل لماذا كانت الدُّنيا دار سعي. . . ولا ينال الإنسان شيئاً من رزق الله تعالى إلاّ بالسعي في الدُّنيا؟
والجواب: إنّ سُلَّم تكامل الإنسان في الدُّنيا في الابتلاء، ولا ينال الإنسان كمالاً في الدُّنيا والآخرة إلاّ من خلال سُنّة (الابتلاء) ، ولا يتمّ الابتلاء إلاّ بالعبور من خلال الأهواء والشهوات والفتن والمُغريات في الدُّنيا. . . وفي هذا العبور يتكامل الإنسان أو يسقط، وكمال الإنسان في الدُّنيا والآخرة هو أن يجتاز هذا الصراط من دون أن يسقط في شرك الشهوات والمُغريات. وسقوطه هو الوقوع في شرك سلطان الأهواء والفتن والمغريات.
إنّ هذا العبور الصعب من وسط الأهواء والشهوات (في داخل النفس) من جانب، ومن خلال المُغريات والفتن في (ساحة الحياة) من جانب آخر، هو سرّ تكامل الإنسان، وهو سبب سقوط الإنسان وهلاكه وشقائه، إذا وقع الإنسان في هذا العبور في أسر الأهواء والفتن.
وليس للملائكة مثل هذا العبور الصعب، كما ليس للحيوان مثل هذا العبور، ولذلك يسمو الإنسان على الملائكة إذا عبر هذه المنطقة الصعبة بسلام، ويكون أحطّ من الحيوانات إذا سقط في هذه المنطقة أُوْلَئِكَ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (15) ، إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (16) ، وهذا العبور هو (السعي) . ولولا السعي لا يتمكّن الإنسان من هذا العبور الصعب.
فلو أنّ الإنسان انزوى في بيته أو في الكهوف والمغارات وتفرّغ للعبادة ولم ينزل إلى الشارع، ولم يختلط بالناس، ولم يلتق بالمُثيرات والمغريات والفتن، ولم تتعرّض الغرائز التي أودعها الله في نفسه لإثارات حادّة، لم يبلغ (كمال الإنسان) ، ولذلك جعل الله تعالى السعي شرطاً في الرزق في هذه الدُّنيا؛ لأنّ تكامل الإنسان لا يتمّ إلاّ من خلال (السعي) ، إلاّ أنّ العِدْل الآخر لهذا الكمال هو السقوط.
وهذا السقوط هو ضريبة ذلك الكمال، وقد هيّأ الله تعالى للإنسان كلّ أسباب سلامة العبور والخروج من هذه المنطقة الصعبة، من وسائل الهداية الباطنية (العقل) والخارجيّة (الأنبياء والوحي) ، ومكّن الإنسان من الاختيار، وهو يختار بعد ذلك الهدى أو الضلال إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (17) ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (18) .
السعي من منازل رحمة الله
جعل الله تعالى لرحمته منازل ومواقع في حياة الناس، فمَن كان يسعى إلى رحمة الله فعليه أن يطلبها في منازلها، ولرحمة الله مفاتيح فمَن طلبها فعليه أن يقصدها بمفاتيحها ومن أبوابها.
وهذا باب واسع من أبواب المعرفة لا نريد أن ندخله الآن، و (السعي) من أعظم منازل رحمة الله.
ولا شكّ أنّ الرازق هو الله تعالى، ولكن (السعي) من أبواب رزق الله تعالى ومنازل رحمته، فمَن أراد الرزق فعليه السعي في السوق، ومَن أراد العلاج فعليه السعي إلى الأطبّاء، ومَنْ أراد العلم فعليه السعي إلى العلماء والمدارس، ومَن أراد النصر فعليه السعي إلى الأعداء والتحضير والتخطيط له.
إلاّ أنّ الرزق من عند الله، والشفاء من عند الله، والعلم من عند الله، والنصر من عند الله، وما السوق والطبيب والمدرسة والإعداد والتحضير للحرب إلاّ مفاتيح ومداخل لها.
وكذلك الآخرة بما يرزق الله تعالى فيها عباده من المغفرة والنعيم والرِّضوان. . . مفتاحها السعي.
ومَن أراد الدُّنيا أو الآخرة من غير أن يسعى إليهما بسعيهما، فلا ينال ما يُريد فيهما.