26ولكن لله تعالى حساب آخر في التقييم والتفضيل، يختلف عن حساب سائر الناس، فيكرمها الله تعالى دون كثير من الرجال والنساء الأحرار، وينتقي سعيها فيجعله جزءاً من مناسك الحجّ والعمرة، ويأمر أنبياءه وأولياءه وعباده أن يحذوا حذو تلك المرأة الصالحة بين جبلي الصفا والمروة في السعي.
إنّ كلّ هذا التكريم من ربّ العالمين كان لإمرأة ابتلاها الله تعالى في هذا الوادي قبل عدّة آلاف من السنين سعت في هذا الوادي بحثاً عن الماء تلهث من الصفا إلى المروة وبالعكس، راضيةً بقضاء الله، منقادة لأمره، داعيةً له، ومستغيثةً به. . . ولم يرها يومئذ أحدٌ من الناس، ولكن الله تعالى رآها، واستجاب دعاءها، وأكرمها، وثبّت سعيها في مناسك الحجّ والعمرة، ليتعلّم الناس أنّ مقاييس التقييم والتفضيل عند الله شيء آخر، غير ما في أيدي الناس من المقاييس، وأنّ من تزدريه عيون الناس قد يرفعه الله، ومن يعظّمه الناس قد يزدريه الله ويحتقره.
7- لم تستسلم لليأس والإحباط
عجيب أمر هذه المرأة في ذلك الوادي القفر، لم تستسلم لليأس، ولم يسلبها التعبُ القدرةَ على السعي والحركة، ولم تفقد الأمل في تحصيل الماء.
والرواية تذكر أنّها رفعت صوتها مستغيثةً فلم يجبها أحد، وأخذت تسعى بين الصفا والمروة وبالعكس تبحث عن الماء، ولم يتطرّق إلى روحها اليأس، ولم يعطّل التعب حركتها، حتّى رأت الماء، في الشوط السابع من على قمّة المروة، يتدفّق تحت قدم ابنها، بالقرب من موقع الكعبة المشرّفة اليوم.
ولو أنّ هذه المرأة كانت مقطوعة عن الله لم يكن بوسعها أن تقاوم كلّ هذه المقاومة، ولاستسلمت لليأس والتعب وسقطت على الأرض، ولكن الإيمان بالله، والثقة برحمته، والأمل العظيم في غوثه السريع، يهب من القوّة والمقاومة والصمود والثبات للمؤمنين، ما لا قِبلَ لأحد به.
عجبٌ أمر هذه المرأة في توكّلها العظيم على الله، حيث قبلت أن تبقى في الوادي القفر وحدها مع ولدها عندما فارقها إبراهيم (ع) .
وفي أملها ورجائها العظيم برحمة الله، حيث لم يصبها يأس ولا إحباط في السعي، حتّى فجّر الله الماء من تحت قدم ابنها إسماعيل بجانب موضع الكعبة.
إنّ هذه القوّة والمقاومة والصبر والثبات لا يكتسبها الإنسان إلاّ من الإيمان بالله تعالى، ولا نعرف في هذا الكون العريض كلّه عاملاً يمنح الإنسان كلّ هذه القوّة والثبات والصمود والصبر مثل الإيمان بالله تعالى.
فلسفة السعي
إنّ السعي شرط الرزق، وما ينال أحد شيئاً إلاّ بالسعي إلى أسبابه. فلا يسأل الإنسان العافية والشفاء إلاّ بالسعي إلى الطبيب والعلاج، ولا ينال الإنسان الرزق إلاّ بالسعي إلى السوق، ولا ينال العلم إلاّ بالسعي إلى الدراسة، ولا ينال الآخرة إلاّ بالسعي في الدُّنيا.
وهذه سُنّةٌ ثابتة من سنن الله تعالى في الحياة الدُّنيا.
وأمّا في الآخرة فليس الأمر كذلك؛ فإنّ الإنسان ينال ما يُريد في الجنّة من دون سعي، فإنّ الجنّة قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (12) ، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (13) ، وَفَاكِهَة مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (14) .
وهذه الآيات وغيرها تُشعر أنّ الجنّة ليست بدار سعي لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ . . .