160
الرازي في التفسير الكبير
وهنا ننتقل الى ما يقوله الرازي في تفسيره للآية في التفسير الكبير، فله كلام مفصل، فهو يقسم الأمر الوارد في الآية: وَأَتِمُّوُا قسمين , ويتبنى القسم الأول ويدافع عنه بأدلة قيمة:
القسم الأول: الأمر مطلق.
القسم الثاني: الأمر مشروط بالدخول فيه.
ثم يقول: ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق , والمعنى: افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام.
والقول الثاني: إن هذا الأمر مشروط , ينسبه إلى أبي حنيفة , والمعنى: أن من شرع فيه فليتمه. قالوا: ومن الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجباً إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجباً, وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا , وغير واجبة عند أبي حنيفة. . ثم يعرض الرازي حجة أصحابه من وجوه. والذي يهمنا منها الوجه الأول , نكتفي به دون ذكر الوجوه الأخرى:
الحجة الأولى: قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ وجه الاستدلال به أن الإتمام يراد به فعل الشيء كاملاً تاماً, ويحتمل أن يراد به إذا شرعتم في الفعل فأتموه , وإذا ثبت الاحتمال وجب أن يكون المراد من هذا اللفظ هو ذاك , أما بيان الاحتمال فيدل عليه قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أي فعلهن على سبيل التمام والكمال, وقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي فافعلوا الصيام إلى الليل, وحمل اللفظ على هذا أولى من قول من قال: المراد فاشرعوا في الصيام ثم أتموه , لأن على هذا التقدير يحتاج إلى الإضمار، وعلى التقديرالذي ذكرناه لا يحتاج اليه، فيثبت أن قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ يحتمل أن يكون المراد منه الإتيان به على نعت الكمال والتمام فوجب حمله عليه، أقصى ما في الباب أنه يحتمل أيضاً أن يكون المراد منه أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه، إلا أن حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن حمل الآية على الوجه الثاني يقتضي أن يكون هذا الأمر مشروطاً، ويكون التقدير: أتموا الحج والعمرة لله إن شرعتم فيهما، وعلى التأويل الأول الذي نصرناه لا يحتاج إلى إضمار هذا الشرط، فكان ذلك أولى.
الثاني: أن أهل التفسير ذكروا أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج. فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه.
الثالث: قرأ بعضهم «وَأَقيمُوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلهِ» وهذا وإن كان قراءة شاذة جارية مجرى خبر الواحد، لكنه بالاتفاق صالح لترجيح تأويل على تأويل.
الرابع: أن الوجه الذي نصرناه يفيد وجوب الحج والعمرة , ويفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما , والتأويل الذي ذكرتم لا يفيد إلا أصل الوجوب، فكان الذي نصرناه أكبر فائدة , فكان حمل كلام الله عليه أولى.
الخامس: أن الباب باب العبادة فكان الاحتياط فيه أولى، والقول بإيجاب الحج والعمرة معاً أقرب إلى الاحتياط، فوجب حمل اللفظ عليه.
السادس: هب أنا نحمل اللفظ على وجوب الإتمام، لكنا نقول: اللفظ دل على وجوب الإتمام جزماً، وظاهر الأمر للوجوب، فكان الإتمام واجباً جزماً والإتمام مسبوق بالشروع، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب، فيلزم أن يكون الشروع واجباً في الحج وفي العمرة.
السابع: روي عن ابن عباس أنه قال: والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله. أي أن العمرة لقرينة الحج في الأمر بهما في كتاب الله، يعني في هذه الآية، فكان كقوله: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فهذا تمام تقرير هذه الحجة.