83وفي سياق الحديث عن فقه الحج نركّز على نقطة جوهرية، وهي مسألة فتاوى الحج؛ فتعدّد المرجعيات الدينية و حصول حالة تحوّل في الرأي عند بعض الفقهاء وكلاهما أمرٌ غير معيب بل هو حالة صحيّة في الجملة يؤدي إلى تذبذب الناس أحياناً وضياعهم في أمر الفتاوى؛ فلو أردت أن تطبع كتاباً جامعاً لفتاوى أبرز المراجع المعاصرين لوجب عليك أن تعيد طبعه كل عام؛ لأن قسماً من الفتاوى سيتغيّر و يتبدّل، من هنا من الضروري وضع حلول عملية لتسهيل هذا الأمر ميدانياً، ولا نقصد تغيير الفقه أو آراء المجتهدين دون استناد إلى دليل والعياذ بالله، لكن فلتؤخذ هذه المشاكل الميدانية بعين الاعتبار.
ومما يتصل بهذا الشأن ظاهرة الاحتياط الوجوبي في فقه الحج، فالحج ليس كالصلاة يتمكن الإنسان من إقامته دون عناء كبير، وإنما هو تكلفة مالية وجهود بدنية واستعداد نفسي وتنظيم للأوقات و.. . لهذا من العسير أن نكثر من الاحتياطات الوجوبية في بحث كفارات الأحكام، أو في إعادة الحج أو ما شابه ذلك، لذلك يرجَّح أن تسعى الجهات المعنيّة لبت أمر الفتوى و رفع حالة الاحتياط الوجوبي قدر الإمكان والتخفيف على الناس في حجها حيث يمكن، دون تجاوز قيد أنملة للخطوط الشرعية والأدلّة المعتبرة في هذا المجال.
فقه الحج وآليات الإشراف على الحرمين الشريفين
وفي سياق فتاوى الحج يأتي عدم إلزام الناس بفتوى مذهب معيّن، إلا ما يخص تنظيم أعمال الحج بحيث يلزم من عدم الأخذ بفتوى خاصّة لمذهب معيّن أو لمرجع ديني معيّن. . يلزم الفوضى أو بعض الآثار السلبية. . فتعدّد الاجتهادات نعمة وفتح باب الاجتهاد والحرية للناس في انتخاب مرجعها ومفتيها ليس نقمة بل فسحة وإباحة؛ فلماذا التشديد على الناس لإلزامهم بشخص معيّن وإلا تعرّضوا للمضايقة أو إلزامهم بمذهب معين وإلا تم التعامل معهم كأنهم خارج الأسرة الإسلامية؟!
من هنا، نهيب بالقيمين على الأماكن المقدسة في الحجاز وسائر بلاد المسلمين ألا يفرضوا فتوى خاصة على عامة المسلمين، مادام المسلمون ينتهجون في طريقة أدائهم للعبادات منهج الرجوع إلى القرآن والسنّة كلّ حسب نظريته واجتهاده، فلتحترم هذه الاجتهادات ولا يتم التعامل مع من يسير وفقها على أساس أنّه فاسق أو يجب أن يعدل عن موقفه لصالح اجتهاد فقهي آخر. . وأعتقد أن القيمين على الحرمين الشريفين وعامة الأماكن المقدّسة يمكنهم أن يستفيدوا من تجربة الإمام مالك بن أنس (179ه) عندما عرض عليه الخليفة العباسي أن يجعل كتابه «الموطأ» كتاباً قانونياً مرجعياً ملزماً للمسلمين في الآفاق والأقطار، فأجابه بالقول بوجود آراء واتجاهات، وكل واحد له علمه وفضله 1.
نحن لا نقف هنا عند حدود أن يحترم القيمون على الأماكن المقدسة في الحج والعمرة والزيارة أفكار واجتهادات المذاهب الإسلامية الأخرى. . مادامت هذه الاجتهادات تحتكم لكتاب الله وسنّة نبيّه. . بل وأيضاً أن لا يتمّ التعاطي في موسم الحج والعمرة مع أتباع المذاهب الأخرى ومقلّدي مفتين آخرين بمنطق من يريد أن يهديهم للحق والدِّين، وكأنّهم خارج إطار الإسلام، فمن أراد أن يهدي المسلمين فعليه أن يفعل ذلك بالوسائل المنطقية الأخلاقية الهائدة غير المتشنّجة، لا أن يلاحق الناس ويتهمهم بالشرك والكفر والضلالة والفسق والانحراف هنا وهناك، حتّى أن الحاج عندما ينتمي إلى بعض المذاهب لا يشعر بالأمان منذ دخوله بلاد الحجاز الكريمة الطيبة، كأنّه مستهدف في دينه وأخلاقه!!
إن هذه الطريقة في هداية الناس من أشدّ الطرق تمزيقاً للمسلمين وتخويفاً لهم، فخدمة الحرمين الشريفين تكتمل وتتمّ بخدمة حجاج هذين الحرمين وزوارهما، لا بالتعامل مع هؤلاء الحجاج بمنطق التكفير والتخوين و.. . مع تقديرنا التام واحترامنا الكامل للجهود الطيبة التي قامت وتقوم بها غير جهة في المملكة العربية السعودية، حكومة وشعباً ومؤسسات، لخدمة الزوار والحجاج، لكن هذا لا يمنع على الدوام من أن يقوم النقاد المسلمون بتصويب بعض الأخطاء والإشارة إلى بعضها الآخر بالكلمة الحسنة والحوار الهادئ، علّ ذلك يقرّب المسلمين من بعضهم ويخلق جوّ احترامهم لبعضهم بعضاً رغم الاختلاف في المذهب وفي الاجتهاد الفقهي.
فقه الحج المقارن، خطوة عملية للتقريب الإسلامي
إذا طالعنا التراث الإسلامي القديم نجد المذاهب، على ما حصل بينها من تخاصم واختلاف. . تتناول أفكار بعضها بعضاً بالنقد والتأييد. . خصوصاً على الصعيد الشيعي، فقد ألّف الشيخ الطوسي (460ه) في القرن الخامس الهجري كتاب «الخلاف» في الفقه المقارن؛ وفعل ذلك على نطاق أوسع بعده العلامة الحلي (725ه) في كتابه الشهير «تذكرة الفقهاء»، ولم يتحفظ العلماء المسلمون أن يحضروا دروس بعضهم بعضاً، فكان يحضر مجلس المفيد (413ه) والمرتضى (436ه) والطوسي (460ه) في بغداد عدد كبير من أبناء المذاهب الأخرى، كما حضر الشهيدان الأول والثاني عند علماء كبار من أهل السنّة في أقطار وبلاد المسلمين..
لكن المؤسف أنّنا نجد غياب الفقه المقارن غياباً تاماً، ففي الوسط الشيعي هناك اطلاع على الفقه السني، ولا نقول: إنّه بالمستوى الذي نأمله، لكن في الوسط السنّي والحق يقال هناك غياب تام أو شبه تام للفقه الشيعي الإمامي، بل نحن نجد من يتعالى على هذا الفقه وكأنه لا قيمة له، وهذا أمر فيه قدر كبير من عدم الإنصاف. . فكيف ننادي بالتقريب بين المسلمين سنّة وشيعة وهناك مثل هذه النظرة لفقه أهل البيت:؟! فبدل أن نُحضِر الفقه الشيعي في الأبحاث الفقهية السنية، والفقه السني في الأبحاث الفقهية الشيعية. . نكتفي بإطلاق شعارات التقارب بين المسلمين دون القيام بخطوات عملانية.
سأعطي مثالاً مبسطاً. . عندما ألفت الموسوعة الفقهية في مصر والمعروفة بموسوعة جمال عبدالناصر. . استحضرت المذاهب الفقهية الثمانية بما فيها مذاهب المسلمين الشيعة والإباضية، وكانت هذه الخطوة طيبة يشكر عليها القيمون. . لكننا وجدنا تراجعاً في تجربة لاحقة أخذت شهرة، وهي موسوعة الفقه الإسلامي المعروفة بالموسوعة الكويتية. . حيث اقتصرت هذه الموسوعة الضخمة على المذاهب الأربعة السنية المعروفة، مستبعدة مذاهب الشيعة والإباضية. . فهل يمكن قراءة ذلك تراجعاً في العقل المقارن والتقريب أم لا؟!