58ولما ابتدأت هدميات هذه التوسعة ظهر للعيان جبل الصفا على حقيقته الجغرافية الطبيعية التي خلقه الله عليها يوم خلق السموات والأرض، وأن امتداد طرفه الغربي الجنوبي المحاذي لمسيل البطحاء من جنوبها كان يصل قبل إزالته في التوسعة إلى موضع الباب الشرقي للسلم الكهربائي الصاعد اليوم إلى الدور الثاني من المسجد الحرام من ناحية أجياد ، وإلى موضع قصر الضيافة الملاصق للبيوت الملكية من الجهة الجنوبية الذي موضعه الحالي جزء مرتفع من جبل الصفا.
فلا تعجب والحال ما ذكرت لك من تسمية كل هذه المنطقة من هذا الجبل باسم ( جبل الصفا) ؛ لأن أهل مكة في إبان أرومتهم العربية في الجاهلية والإسلام هم الذين سموه بهذا الاسم ، وتبعهم في ذلك سكانها من بعدهم ؛ إذ كان من عادة واضعي اللغة الذين يحتج بكلامهم في بيان المراد بمعاني الألفاظ في تفسير القرآن ، وغريب الحديث النبوي، أن يسموا بعض أجزاء جبل ما ، أو واد ما باسم خاص به يميز ما سموه منه عن اسم أصله لوصف قائم بذلك الجزء من الجبل أو الوادي، كما هو الحال في تسميتهم أصل جبل أبي قبيس من ناحيته الغربية ، والغربية الجنوبية، وما بينهما من امتداد بالصفا الذي جعله الله عز وجل من شعائره في قوله: إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ ...
وذكر أبو إسحاق الحربي في وصفه لمكة يوم أن حج إليها في كتابه (المناسك): جبل الصفا، وذكر أن امتداده أمام جبل أبي قبيس من طرف باب الصفا إلى منعرج الوادي.. . وأن طرفاَ من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا ) 1
وتعرج جبل أبي قبيس الذي يحتضن جبل الصفا من خلفه ، والصفا أسفل منه من أول منعرجه من ناحية البطحاء ( الساحة الشرقية للمسعى اليوم ) إلى منعطفه إلى أجياد الصغير (موضع قصر الضيافة اليوم) تغطيه الدور التي كانت تجثم على قاعدته ، وعلوه ، وأسفله إلى موضع السعي من الصفا المعروف اليوم كما سبق أن ذكرت آنفاً قد أزيل من موقعه بقصد توسعة المسجد الحرام على مرحلتين:
أولاهما: عام 1375ه- حين قطعت أكتاف جبل الصفا ، وفتح عليها شارع لمرور السيارات يصل بين أجياد والقشاشية التي لم تبق لها اليوم عين أيضاً.
وثانيتها في عام 1401ه- أزيل هذا الشارع وقطع الجبل من أصله ، وفصل موضع الصفا عن الجبل ، وفتح بينه وبين الجبل الأصل طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وبين جدر الصفا من خارجه الشرقي تسهيلاً للحركة والمشي حول المسجد الحرام، يسّر على الناس عناء صعود الجبال والهبوط منها في ذلك الموضع .
وبهذا أزيل ظاهر جبل الصفا من الوجود ، ودخل في ذمة التاريخ في هذا العام 1401ه- بيد أن أصله وقاعدته موجودة تحت أرض الشارع المذكور ،ممتدة إلى منعطفه الشمالي الشرقي المواجه لساحة المسعى الشرقية تثبت امتدادته قبل نسفه ، وفصله عن أصله ، وإزالة الظاهر على وجه الأرض منه.
كما أن قول أبي إسحاق في تحديده لجبل الصفا ( إلى منعرج الوادي) ينص صراحة على اتساع هذا الجبل شمالاً إلى منعطفه من واجهته الغربية إلى منعطفه نحو الشمال المقابل للبطحاء ( الساحة الشرقية للمسعى).
ولاريب أن ما بين طرفه الغربي الجنوبي ، وطرفه الشمالي عند منعرج الوادي إلى الشرق من ناحية الشمال تشمله التسمية المقصودة بالخطاب في هذه الآية الكريمة ...
ويترتب على هذا أن المنطلق (أي الساعي ) بنية السعي من أي موضع مما يشمله اسم الصفا لغة وعرفاً يكون داخلاً في عموم المراد بالخطاب بهذه الآية الكريمة ساعياً بحق وحقيقة بين الصفا والمروة إذا ما انتهى به سعيه مما ذكرت إلى مسامت له من جبل المروة المقابل له من ناحية الشمال» 2.
انتهى فضيلة الدكتور عويد المطرفي إلى القول:
« وإنما ذكرت هذا بياناً لمجمل ما أردت إيضاحه من أن الصفا متسع التكوين عريض الامتدادات من جنوبه الغربي ، وشماله المحاذي للامتداد الشرقي والغربي لجبل المروة ، وليس مقصوراً على الموضع الذي حجز اليوم بالبناء عليه لبدء الساعين منه سعيهم ، كما يتبادر لعين المشتغل بأداء شعيرة السعي فيه ليعلم أن ما يصل بين موضعين متقابلين من هذين الجبلين مشمول بخطاب ما شرعه الله تعالى من التطوف بهما للحاج والمعتمر». 3
مشعر المروة قبل توسعة الحرم عام 1375ه
وصف فضيلة الدكتور عويد عياد المطرفي جبل المروة وصفاً دقيقاً لطبيعة الجبل والإحداثات التي كانت موجودة عليه ، وأسماء السكان الذين أقاموا منازلهم عليه بما يثبت معرفته التامة بالمنطقة ، وأهلها ، نلخص منه الآتي:
«وأما المروة المرادة بالخطاب في قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ فهي كما قال ابن منظور في كتابه لسان العرب: «جبل بمكة شرفها الله تعالى»، وقال الفيروز آبادي في القاموس المحيط ، والزبيدي في شرحه تاج العروس: «المروة بهاء جبل بمكة يذكر مع الصفا، وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه: إِنَّ الصَّفٰا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اللّٰهِ ثم قال الزبيدي أيضاً: قال الأصمعي : سمي ( أي الجبل ) لكون حجارته بيضاً براقة ...» 4