29و قد وقع كلام بينهم في مكانها و زمانها، فهل ألقاها رسول الله(ص) في عرفة أو منى؟ و في أيّ يوم من أيام منى؟
فبعضهم أوردها و لم يذكر في أيّ مكان تكلّم بها رسول الله(ص) ، كابن شعبة الحرّاني في تحف العقول 1، و الجاحظ في البيان و التبيين 2، وابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد 3، بل أوردوها بعنوان «خطبة رسول الله(ص) في حجّة الوداع».
و بعض آخر أوردها و ذكر أنّها خطبة رسول الله(ص) بعرفة، كابن هشام في السيرة النبويّة و النسائي في السنن الكبرى 4، ومسلم في صحيحه كما ذكرناها، ولم يذكر له(ص) خطبة بمنى.
وثالث أوردها وذكر أنّها خطبة رسول الله(ص) أيّام منى، كالبخاري في صحيحه عن ابن عبّاس، قال: إنّ رسول الله(ص) خطب الناس يوم النحر 5 و هكذا البغوي في مصابيح السنّة 6، ولم يذكر له(ص) خطبة بعرفة.
وقد أوردها الهيثمي بطرق عديدة بعنوان «باب الخُطب في الحجّ» 7.
وروى ابن كثير روايات في خطبته يوم العيد، و ذكر الخطبة الشريفة الطبري أيضاً و ابن الأثير 8.
وفي كنز العمّال و الطبقات الكبرى قد وردت الخطبة بروايات مختلفة 9.
وروى ابن ماجة بأنّه(ص) خطب في حجّة الوداع، و أُخرى بأنّه خطب بعرفات، و ثالثة بأنّه خطب يوم النحر بين الجمرات 10.
وفي بعض الروايات: نزلت هذه السورة: إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ 11 على رسول الله(ص) في أوسط أيّام التشريق، فعرف أنّه الوداع، فركب راحلته العضباء فحمد الله و أثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس كلّ دم كان في الجاهلية فهو هدر 12.
وأوردها ابن كثير مختصراً مرّة بعنوان خطبة رسول الله(ص) بعرفة على رواية مسلم وأُخرى بعنوان خطبة رسول الله(ص) بمنى برواية البخاري 13.
وأورد الواقدي في المغازي بعض فقرات هذه الخطبة في ضمن خطبة النبي(ص) بمكّة يوم الفتح 14 . و كذلك المقريزي في إمتاع الأسماع 15.
واعلم أنّه بالرغم من الاختلاف بين من ذكر متن الخطبة مطوّلاً أو مختصراً بعنوان أنّها خطبة النبي(ص) في حجّة الوداع أو بعنوان خطبته بعرفات، أو ذكرها بعنوان أنّها خطبته(ص) بمنى يوم النحر، أو أوسط أيّام التشريق إلاّ أنّ كلّها قريبة المفاد و المعنى.
و الذي يبدو جلياً أنّ رسول الله(ص) خطبها بعرفة، ونظراً لأهميتها و عظيم ما تضمنته من معان جليلة و مطالب هامّة فقد أعاد رسول الله(ص) محتوياتها و فقراتها في مناسبات ومواقف عديدة و أماكن أُخرى في يوم النحر أو اليوم الحادي عشر، فهي تُعدّ بحق خطبة كاملة و كلمة جامعة وأساساً متيناً لوحدة المسلمين وتبياناً لشؤون دينهم ودنياهم.
و هي وإن اختلفت المصادر التي ذكرتها في بعض ألفاظها، فإنّ هذا الاختلاف لا يضرّ بالمعنى و المفاد، و إليك نصُّها:
ألْحَمْدُ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُهُ وَ نَسْتَغْفِرُهُ وَ نَتُوبُ إِلَيْهِ وَ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَ أَسْتَفْتِحُ اللهَ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي أُبَيِّنْ لَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، فِي مَوْقِفِي هَذَا.
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَ أَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللّهُمَّ اشْهَدْ
فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا وَ إِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَ إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَبْدَأُ بِهِ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ إِنَّ دِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَ إِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَبْدَأُ بِهِ دَمُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ إِنَّ مَآثِرَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ غَيْرَ السِّدَانَةِ وَ السِّقَايَةِ وَ الْعَمْدُ قَوَدٌ وَ شِبْهُ الْعَمْدِ مَا قُتِلَ بِالْعَصَا وَ الْحَجَرِ وَ فِيهِ مِائَةُ بَعِيرٍ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ.
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ وَ لَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فِيمَا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ وَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَ وَاحِدٌ فَرْدٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَ ذُو الْحِجَّةِ وَ الْمُحَرَّمُ وَ رَجَبٌ بَيْنَ جُمَادَى وَ شَعْبَانَ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللّهُمَّ اشْهَدْ