87
«وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحيّة، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا».
ترك نعيم الدنيا وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الفاقة، وأصبح الفتى المعطر المتأنق لا يرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً ويجوع أياماً ، وقد بصره بعض الصحابة يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، فحنوا رؤوسهم وذرفت عيونهم دمعاً شجياً..
ورآه الرسول(ص) وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة وقال:
«لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله».
وحين نظر رسول الله(ص) إلى مصعب وقد جاء مقبلاً وعليه إهاب كبش قال:
«انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغدوان بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون».
لقد ظلّ مصعب محتسباً كل آلامه عند الله العلي القدير ينتظر منه الفرج والنجاة والأجر والثواب ..
هجرته
ولما اشتد أذى المشركين لمصعب ولإخوته المسلمين وضاق بهم أسياد مكة ذرعاً أذن لهم رسول الله(ص) بالهجرة إلى الحبشة، وهي الهجرة الأولى لهم بعد إسلامهم.
يقول ابن إسحاق : فلما رأى رسول الله(ص) ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم:
«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه».
فخرج عند ذلك جمع من المسلمين من أصحاب رسول الله(ص) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام . ثم ذكر أسماء من هاجروا ونسب كل واحد منهم إلى قبيلته حتى وصل إلى : ومن بني عبد الدار بن قصي : مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار . ثم واصل ذكر غيره . فكان عدد الرجال عشرة ومعهم أربعة نساء، ومصعب كان سادسهم..
وقد خرجوا متسللين سراً حتى انتهوا إلى الشعيبة منهم الراكب والماشي، ووفق الله المسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من حين نبئ رسول الله(ص)، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر فلم يدركوا منهم أحداً 1.
وفي قول: إنهم أمروا عليهم عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح.. ثم تواصلت هجرتهم فالتحق من قبيلة مصعب عدد آخر، وهم سويبط بن سعد وجهم بن قيس ومعه امرأته أم حرملة من خزاعة وابناه عمرو وخزيمة. وأبو الروم بن عمير - وهو أخ لمصعب كما يبدو لي - وفراس بن النضير .. فكانوا كلهم سبعة رجال من قبيلة عبد الدار، قبيلة مصعب بن عمير 2.
فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر وكان عددهم اثني عشر رجلاً وأربع نسوة. ثم تكاثر عدد المهاجرين الذين تعاقبوا على الحبشة حتى وصل جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلاً..
وكان مما قيل من شعر في الحبشة وهو يصور معاناتهم وما تعرضوا من عذاب وهوان كانت السبب في هجرتهم وترك بلادهم:
كل امرئ من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفتون
إنا وجدنا بلاد الله واسعة
تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز
ي في الممات وعيب غير مأمون
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا
...