23
الحجّ رموزٌ وحِكم 1
الشيخ عبدالله جوادي آملي
المسجد الحرام
الحرمة الخاصّة للمسجد الحرام
تتمتّع المساجد كافّة لاسيما منها المسجد الحرام بحرمة خاصّة 2؛ فالمسجد الحرام يحوي بيت الله الحرام، والمكان النهائي لذلك البيت الشريف 3، ونقطة انطلاق الإسراء والمعراج 4.
إنّ مكان الحجّ والزيارة، كموسمهما وزمانهما، حرامان محترمان، من هنا حرّم القتال الابتدائي فيه، لكن حيث إنّ القصاص لا يختصّ بالنفس أو الطرف، وإنّما هناك قصاص في نقض الحرمات وهتك احترامها وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ 5، يقول الله تعالى: وَ لاٰ تُقٰاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ حَتّٰى يُقٰاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قٰاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزٰاءُ الْكٰافِرِينَ 6.
ومن الواضح أنّ حرمة المسجد الحرام كانت من احترام الكعبة، تماماً كما كان احترام الكعبة والمسجد سبباً في حرمة مكّة، واحترام الثلاثة معاً سبباً في حرمة الحرم الإلهي، لكن حيث كانت هذه الحرمات كافّة لأجل الإسلام نفسه صدر أمرٌ بضرورة قتل المشركين هناك عندما يتعرّض المسلمون في المسجد الحرام من جانبهم للهجوم بغية إبادة الإسلام.
لقد تقدّم توضيح هذه المسألة في الفصل الخامس من القسم الأوّل، لدى الحديث عن «منشأ الحرمة وعزّة الكعبة» وشرحنا أنّ الحرمة التي كانت للحَرَم ومكّة والمسجد الحرام والكعبة إنّما هي من الإمام الذي اختاره الله للولاية، ومنه ينتهي الأمر إلى الحقّ المطلق تعالى.
إدارة المسجد الحرام وولايته
لا يحقّ لغير المتّقين الشجعان والمدبّرين الواعين أن يديروا المراكز الدينيّة المهمّة، فنظراً للأهمّية الخاصّة للكعبة، وكذلك المسجد الحرام وحرم الأمن الإلهي، فقد بيّن القرآن الكريم بصراحة مَن يتصدّى امورها وشروطه، وما يمنع ذلك، بحيث جعل الصالحين اللاّئقين في هذا المنصب وطرد الطالحين غير المناسبين عنه، فأودع الأمانات الإلهيّة أهلها.
إنّ تعيين ولاة البيت الإلهي من صلاحيّات الله سبحانه وحده فقط، فقد جاء في الآية الكريمة: مٰا كٰانُوا أَوْلِيٰاءَهُ إِنْ أَوْلِيٰاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ 7، وفي ذلك إشارة إلى عزل، بل انعزال العاصين عن تولّي شؤون المسجد الحرام، لصالح نصب المتّقين لذلك؛ ذلك أنّ العُصاة منصرفون عن المعبد الإلهي، كما أنّهم صارفون عنه، فهم ناؤون وناهون، أمّا الأتقياء فهم في رحاب معبد الله عبيد حقّ، وهم دُعاةٌ إليه أيضاً.
إنّ تولّي امور المساجد ليس من حقّ الناس، بل حكم إلهي وحقّ خاصّ بالله سبحانه، جُعل على كاهل الرجال المتّقين وأُلزموا به؛ من هنا كان لزاماً لتولّي شؤون الحرم، والتي حصرها الله بأفراد أو فريق خاصّ، أن يمتثل المتّقون في مختلف البلدان الإسلاميّة لأمر الله وقراره الغيبي في إدارة الحرم ويكون لهم دورٌ في ذلك.
والسرّ الرئيس في هذا الأمر هو أنّ الكعبة التي هي منشأ حرمة واحترام المسجد الحرام والحرم الإلهي ليست مثل سائر الآثار القديمة للأقوام والشعوب والملل، حتّى ينفرد بإدارتها فريق خاصّ يحرسونها ويهتمّون بها؛ فلو كانت الكعبة مثل سور الصين، وأهرام مصر، وما شاكل ذلك، لم تكن لتتحوّل إلى نقطة تجمّع روحي للمسلمين جميعاً في مختلف أقطار العالم على امتداد التاريخ.