12فالملاك في هذا أو الضابط فيه أن التاريخ الفاصل بين المدني والمكي هو الهجرة؛ فما نزل بعدها - بغض النظر عن مكان النزول - فهو المدني وما نزل قبلها بغض النظر عن مكان النزول فهو المكي. وبتعبير آخر الملاك هو زمن النزول قبل الهجرة أو بعدها؛ سواء ما نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار.
وقد أخرج عثمان بن سعد الرازي بسنده إلى يحيى بن سلام قال:
ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي(ص) المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي(ص) في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني، وهذا أثر لطيف يؤخذ منه أن ما نزل في سفر الهجرة مكي اصطلاحاً 1.
فالآيات التي نزلت في أسفار الرسول(ص) أو في مكة حتى وإن نزلت في جوف الكعبة أو في منى وعرفات، تعد كلها آيات مدنية؛ لأنها جاءت وفق الملاك المذكور، وهو أنها نزلت بعد الهجرة، كما هو الحال في الآية 61 من سورة النساء: إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا ، فإنها نزلت عام الفتح، أي بعد الهجرة وفي جوف الكعبة.
والآية 2 من سورة المائدة: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... نزلت في الجحفة، وعلى رأي ثانٍ نزلت في عرفات، وفي عصر يوم عرفات من يوم الجمعة عام حجة الوداع . وآية يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... 2، نزلت إما في عرفات على رأي أو في غدير خم على رأي آخر وفي حجة الوداع، وهي آيات مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة، وهذا الرأي جعلوه أشهر الأقوال الثلاثة. وهو تفسير بني عندهم على أساس الترتيب الزماني لنزول الآيات؛ وتكون هناك مرحلتان زمانيتان تفصل بينهما هجرة الرسول(ص).
الترجيح بين الأقوال والنظريات
وقد ذهب العديد من العلماء ومنهم السيد الشهيد الصدر إلى ترجيح الرأي الثالث، وهو يشكل كما رتبه السيد الصدر الرأي الأول في بحثه؛ إذ بعد أن يوجب طرح الرأي الذي يبنى على أساس مراعاة أشخاص المخاطبين، أي المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة؛ لأنه يقوم على أساس خاطئ، وهو الاعتقاد أن من الآيات ما يكون خطاباً لأهل مكة خاصة ومنها ما يكون خطاباً لأهل المدينة وليس هذا بصحيح، فإن الخطابات القرآنية عامة وانطباقها حين نزولها على أهل مكة أو على أهل المدينة لا يعني كونها خطاباً لهم خاصة أو اختصاص ما تشتمل عليه من توجيه أو نصح أو حكم شرعي بهم، بل هي عامة ما دام اللفظ فيها عاماً...
ثم يقول السيد الشهيد : والواقع أن لفظ المكي والمدني ليس لفظاً شرعياً حدد النبي(ص) مفهومه؛ لكي نحاول اكتشاف ذلك المفهوم، وإنما هو مجرد اصطلاح تواضع عليه علماء التفسير، وما من ريب في أن كل أحد له الحق في أن يصطلح كما يشاء.
ثم يذهب إلى أن مصطلح المكي والمدني على أساس الترتيب الزمني أنفع وأفيد للدراسات القرآنية، وسبب الترجيح هذا - كما يذهب إليه السيد الشهيد - هو أن التمييز من ناحية زمنية بين ما أنزل من القرآن قبل الهجرة وما أنزل بعدها أكثر أهمية للبحوث القرآنية من التمييز على أساس المكان - بين ما أنزل على النبي في مكة وما أنزل عليه في المدينة - فكأن جعل الزمن أساساً للتمييز بين المكي والمدني واستخدام هذا المصطلح لتحديد الناحية الزمنية أوفق بالهدف.
ثم يذكر نقطتين تبيّنان أهمية التمييز الزمني من التمييز المكاني وهما:
1 - فقهية، أي أنها ترتبط بعلم الفقه ومعرفة الأحكام الشرعية، وهي أن تقسيم الآيات على أساس الزمن إلى مكية ومدنية وتحديد ما نزل قبل الهجرة وما نزل بعدها، يساعدنا على معرفة الناسخ والمنسوخ؛ لأن الناسخ متأخر بطبيعته على المنسوخ زماناً، فإذا وجدنا حكمين ينسخ أحدهما الآخر استطعنا أن نعرف الناسخ عن طريق التوقيت الزمني، فيكون المدني منهما ناسخاً للمكي لأجل تأخره عنه زماناً.
هذه النقطة إنما تكون مهمة - والقول للسيد الشهيد محمد باقر الحكيم - بناء على المذهب المعروف في علوم القرآن الذي يقول بوجود النسخ بين الآيات القرآنية من خلال افتراض وجود حكمين متخالفين، أحدهما متأخر عن الآخر زماناً، فيفترض أن الثاني ناسخ للأول. وأما إذا التزمنا بعدم وجود النسخ بهذا الشكل وإنما موارد النسخ في القرآن مبينة من خلال نظر الآية الناسخة للآية المنسوخة في مضمونها فلا تبقى أهمية لهذه النقطة وإنما تكون مجرّد فرضية..
2 - والنقطة الأخرى التي يذكرها السيد الشهيد الصدر هي: أن التقسيم الزمني للآيات إلى مكية ومدنية يجعلنا نتعرف على مراحل الدعوة التي مرّ بها الإسلام على يد النبي، فإن الهجرة المباركة ليست مجرد حادث عابر في حياة الدعوة، وإنما هي حدّ فاصل بين مرحلتين من عمر الدعوة، وهما: مرحلة العمل في ضمن المجتمع الذي تحكمه السلطة الكافرة المهيمنة على جميع الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، ومرحلة العمل ضمن دولة الإسلام. ولئن كان بالإمكان تقسيم كل من هاتين المرحلتين بدورهما أيضاً إلى مقاطع زمنية، فمن الواضح - على أي حال - أن التقسيم الرئيس هو على أساس الهجرة.
فإذا ميزنا بين الآيات النازلة قبل الهجرة وما نزل منها بعد الهجرة، استطعنا أن نواكب تطوّرات الدعوة والخصائص العامة التي تجلّت فيها خلال كل من المرحلتين. وأما مجرد أخذ مكان النزول بعين الاعتبار وإهمال عامل الزمن فهو لا يمدّنا بفكرة مفصلة عن هاتين المرحلتين ويجعلنا نخلط بينهما، كما يحرمنا من تمييز الناسخ والمنسوخ من الناحية الفقهية . . وسوف يتضح أيضاً مزيد من الأهمية عند دراستنا لخصائص المكي والمدني فلهذا كله - والقول مازال للشهيد الصدر - نؤثر الاتجاه الأول في تفسير المكي والمدني .. وهو الاتجاه الثالث في مقالتنا هذه، وهو القائم على أساس