24مُضاء علىٰ مدار اليوم، وماكينات التهوية لا تكف عن الطنين لأنّه دوماً مليء بالسيارات والبشر، بل إنّ بعضهم يتّخذ من جنباته - ليلاً - مأوىٰ بدلاً من النوم في العراء، وليس هناك من يمنع ضيوف الرحمن من النوم في أي مكان.
هاآنا ذا أقف، نقطة بيضاء ضئيلة وسط ملايين النقاط الساعية، أمام جبال مكّة وصخورها، تعلو أصواتنا جميعاً بأدعية التلبية التي لم تتغير من ألف وأكثر من أربعمائة عام «لبيك اللهم لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك»
أخرج من عتمة النفق لأرىٰ أروع مشهد يمكن أن يراه مسلم، المسجد المهيب أمامنا، البيت الحرام الذي بارك اللّٰه من حوله، مآذنه التسع سامقة للسماء، كأنّها جماع من أذرع لا تكفّ عن التضرّع، لون الحجر الأبيض المحيط به، يختلط مع البياض الذي يكسو الأجسام، جدل لا ينتهي بين الحركة والسكون، أتوقّف قليلاً لأراقب عمارته البسيطة الآسرة في انبهار، ثم يرتفع صوتي وترتفع كلّ الأصوات من حولي فجأة بنداءات الأدعية، كأنّنا نحاول أن نستخرج من داخل نفوسنا كلّ ما هو كامن وخفي من قوى الإيمان لتمنحنا القدرة علىٰ مواجهة هذا المشهد المهيب، كان الشاعر محمّد الفيتوري قد قال لي: «البيت العتيق هو مرآتك، ترىٰ فيه كلّ ما في داخل نفسك، إن كانت صافية فلن ترىٰ فيه إلّاصفاء اللحظة، وإن كانت معتمة فلن تتجاوز أستار الكعبة السوداء» . إنّها إحدى اللحظات النادرة من تعرية الذات التي يجب على المرء أن يكشف نفسه فيها بلا خجل ولا مواربة.
دخلنا مكّة نهاراً كما فعل النبي صلى الله عليه و آله، فقد نزل هو وصحبه في حجّته الأولىٰ والأخيرة إلىٰ مكان يدعىٰ «ذي طوىٰ» في أطراف مكّة، وفضّل أن يبيت فيه حتىٰ لا يؤخذ دخوله إلىٰ مكّة ليلاً سنّةً من بعده، ففي النهار متّسع من الوقت، ومدىٰ من الرؤية، والتأمّل متاح للجميع،