49أناس كان دأبهم الاجتماع في أروقة البيت وفي أفنائه فإذا رأيتها قد انحازت ناحية، ودلفت إلى أستار الكعبة فتوارت خلفها عن عيون القوم فكفاك ما شهدت. وقف منها على ملقط السمع دون مرمى العين لأنّها شاءت أن تتّخذ من الستر المقدّس ردءاً. واسمع بعد هذا حسيساً خافتاً يأتيك من لدنها. وأنيناً يحكمه الجلد واصطناع الاحتمال، وصرخات مكتومة تكاد أن تضلّها الأذن كأنّها تأتي من مهوى سحيق بعيد القرار. ثمّ اسمع نبرة بكاء تخالط هذه الصرخات، لها غير جرسها وغير رنتها، رقيقة، رنانة في غير حدّة، كأنّها شدو طائر تفتّحت عيناه على شعاع فجر أسفر أو أوشك على اسفار. وقد يأخذك العجب، وتملكك الدهشة، ولكنّه عجب قصير أجله، ودهشة لن يطول بك مداها ما دامت فاطمة قد بدت ثانية لناظريك، واهنة، وأشدّ ضعفاً ممّا رأيتها من قبل، كسا وجهها الشحوب ومشت في أوصالها رجفة الاعياء، وقد احتملت - مدثراً بستر الكعبة الشريف - وليدها بين صدرها وكفّيها.
* * *
تلك ولادة لم تكن قبل طفلها هذا الوليد ولم يحز فخرها بعده وليد أكرمه بها اللّٰه وأكرم اُمّه وأباه، فكان تكريماً لفرعي هاشم الذي انحدر منه الطفل عن فاطمة وعن أبي طالب حفيدي الأصل الثابت الكريم.
وأقبل القوم - حين انتبهوا - يستبقون إلى السيّدة، يعاونونها: ويأخذون بيدها، ويملأون الأبصار بطلعة ذلك الذي كان بيت اللّٰه مولده، وستر الكعبة ثوبه، كأنّما أوسع له في الشرف باجتماعه في كلا المولد والمحتد وهم لو استطاعوا أن يسبقوا زمانهم كما تأخّرت أنت لرأوه أيضاً يجتمع له نفس هذا الشرف حين يقبل عليه الموت فيلقاه في بيت اللّٰه يهمّ أن يقوم بالصلاة. . .
أمّا فاطمة فقد أحبّت أن تحي في وليدها اسم أبيها فدعته بمعناه وان لم تدعه بلفظه، وقالت لزوجها وهي تحاوره:
«هو حيدرة» .