221
المنفى الأخير «الربذة» :
لقد كان الصراع الذي خاضه أبو ذر طيلة عمره الشريف ضد الحكام واستئثارهم وضد ثروتهم المتزايدة بعيداً عن المبادئ والقيم وحاجة الناس وعوزهم. . . لابدّ أن ينتهي الى إبعاده عن الساحة - على أقل التقادير - وهذا ما جرى بالفعل، وخير ما يصور لنا جهاد الرجل وإخلاصه ومناوأته للظالمين نهجالبلاغة، يقول الإمام علي عليه السلام: وهو يودعه: يا أبا ذرٍّ، إنّك غضبتَ للّٰه، فارجُ من غضبتَ له. إنّ القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم الى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً. ولو أنّ السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثمّ اتقىاللّٰه؛ لجعل اللّٰه منهما مخرجاً! لا يؤنسنّك إلّاالحقّ، ولا يوحشنّك إلّاالباطل، فلو قبلتَ دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوكَ 1.
اشتد مرضه الذي ألمّ به، وانتابه ضعف شديد جعله يجود بنفسه وحيداً في غربة قاتلة، وقد فقد المعين وغاب عنه الناصر إلّاابنته وعلى رواية زوجته، وماذا تستطيع البنت أن تقدم لأبيها وهو يصارع سكرات الموت؟ !
رمقها بنظرة فرآها تبكي، عرف معنى بكائها، فقال لها: ما يبكيك؟
قالت: مالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يدان لى بتغييبك وليس عندي ثوب يسعك كفناً لي ولا لك؟ ! ولابدّ منه لنعشك، قال: فأبشري ولا تبكي، إني سمعت حبيبي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول: «لا يموت بين امرأين من مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبرا ويحتسبا، فيريان النار أبداً» .
وإني سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول لنفر وأنا فيهم: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين» .