215فأهمل البحث في المسألة الأولى (المسألة الكونية) وانكب على دراسة المسألة الثانية (المسألة الاجتماعية) فجاءت فكرته عن الحرية الإنسانية نتيجة طبيعية لعبثيته ولا أباليّته في المسألة الكونية، التي حكم عليها بأنها نظرية لا علاقة لها بالحياة، وهو حكم متسرّع لم ينشأ من دراسة موضوعية، وإنما من رغبة في إقصاء الدين عن الحياة، بعدما أشبعت الكنيسةُ أوروبا بالمظالم والمفاسد والانحرافات. ولو أنّ الغرب بحث هذه المسألة بعيداً عن تلك الروح السلبية تجاه الدين، وانتهى بحكم البحث الموضوعي إلى الايمان باللّٰه، وكان منطقياً هادفاً ومنسجماً مع نفسه وعقله، لوجد أنّ الواقع يفرض عليه أن يبحث في المسألة الاجتماعية في ضوء نتائج بحثه في المسألة الكونية، وأن يحدّ من نطاق إيمانه بالحرية الإنسانية كما آمن الإسلام بذلك. ومن هنا فإنّ الإسلام عندما أعطى السيادة للمجتمع الإسلامي دون سواه كان ينطلق من ذلك من مبدإ هدفيته في الحياة، ومطالبته المجتمع الإنساني أن يكون منسجماً مع عقله، وهادفاً في وجوده، ورافضاً انحدار ذلك المجتمع إلى حضيض العبثية.
أمّا الإنسانيّة شبه الملتزمة المتمثّلة بأهل الكتاب، الذين يحملون نوعاً من التشبث بالتوحيد، فقد منحها الإسلام الموقع الثاني في الحياة، وهو موقع يتضمّن حقّ الحياة والوجود بلا سيادة. والذي منحها هذا الحقّ هو تشبثها بالتوحيد، كما أنّ الذي حرمها من السيادة هو نقصان ما تدّعيه من التوحيد؛ ولذلك أمر الإسلام بمعاملتهم بالحسنى، والوفاء معهم بالعهود والمواثيق التي تعطى لهم، ولم يمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية إذا لم يخلّوا بشرائط الذمة. وآمنوا بالسيادة الإسلاميّة عليهم حتىٰ قال النبي صلى الله عليه و آله:
«مَن آذىٰ ذميّاً فقد آذاني» .
فما عندهم من التوحيد يبتعد بهم عن الاتصاف بالخطر علىٰ قاعدة