187
خلال تدوين التاريخ الإسلامي، كان لطريقة تدوين تاريخ المدن والأمصار قدمٌ عريقٌ فيه. وقد احتلّ تاريخ مكّةَ وما جرىٰ فيها من الوقائع والأحداث أهميّةً بارزةً تتناسب ومكانتها ضمن هذا السياق.
فمكّةُ مدينةٌ عريقة ذات شأن عظيم وصيت شائع في الآفاق. وكانت منذ القدم محطَّ أنظار الشعوب والأمم، وهي من منظار القدم التاريخي تُعدُّ من أقدم الأمصار التي شيّدت على وجه المعمورة، وضمّت بين ربوعها شعوباً وقبائلَ شتّىٰ. وفي العصر الإسلامي كانت أخبار مكّة، والنصوص التي تُعنىٰ بأحداثها ووقائعها المختلفة تحظىٰ بأهمية بالغة لدى المسلمين، فقد كانت فضائل مكّة وأخبارها ومكانتها الرفيعة وامتدادها التاريخي تلقىٰ اهتماماً واسعاً لدى المسلمين ولأسباب كثيرة.
فقد كانت - ولا زالت - المعرفة الدقيقة لما دوّن عن مكّة تحتلُّ أهمية قصوىٰ نابعة من ضرورتها في تفسير القرآن، وفهم الآيات الرّبانيّة، وسيرة النبيِّ، وكيفية إنبثاق الرسالة الإسلاميّة وانتشار شعاعها في كلّ الأرجاء. وعلى هذا الأساس فإنّ أقدم النُصوص المدوّنة في الحضارة الإسلاميّة هي تلك التي كتبت عن تاريخ مكّة والمدينة.
قِدَم هذه النصوص:
يظهر أن أقدم مُصَنَّفٍ ورد فيكتب التاريخ والسيرة حول هذا الموضوع، هو كتاب محمد بن عمر الواقدي، الذي ولد عام 130 وتوفي عام 207 للهجرة 1، وكان محدّثاً كبيراً ومؤرخاً حاذقاً. وكان كتابه الموسوم ب « أخبار مكّة» مصدراً لمن تلاه من المحقّقين الذين استقوا منه فيما كتبوه عن مكّة من أخبار ونصوص. وجاء من بعده علي بن محمد المدائني (135 - 225 ه) وهو من المؤرخين الذين أغنوا التاريخ بغزارة مؤلّفاتهم وتنوع كتاباتهم. وذكر ابن النديم - الذي نقل آثاره تفصيلياً وبشكل موضوعي - أن له كتاباً عن مكّة اسمه « تاريخ مكّة» ، ولا يوجد لهذا الكتاب أيُّ أثر اليوم شأنه في ذلك شأن الكثير من مؤلّفاته الأخرىٰ. وينبغي لي التذكير هنا بأن الكثير من المصادر الأخرى التي تحدّثت عن سيرته ومؤلّفاته لم تذكر عن هذا الكتاب شيئاً 2.
بعد كتاب المدائني لابدّ من الاشارة إلى الكتاب القيم الذي ألّفه أبو الوليد محمد بن عبد اللّٰه بن أحمد الأزرقي (. . .
إلى ما يقارب 250 ه) ، وعنوانه « أخبار مكّة» ، ونقل فيه أخباراً كثيرة عنها. ومن حسن الحظّ أن الكتاب موجود اليوم، ولا يزال المحقّقون يرجعون إليه وينهلون من فيضهِ 3.