124ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد واللّٰه، ما بعد القاء السلاح إلا الأسر، وما بعد الأسر إلا القتل، فأخذه رجال من قومه، وقالوا يا جحدم تريد أن تسفك دماءنا؛ إن القوم قد أسلموا، ووضعت الحرب وأمن الناس وما زالوا به حتى نزعوا منه سلاحه، ووضع القوم السلاح امتثالاً لطلب خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر الى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم اني أبرأ إليك مما صنع خالد 1.
ثم دعا علياً عليه السلام فقال: يا علي أخرج الىٰ هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج حتى جاءهم، ومعه مال قد بعثه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فودَى لهم الدماء، وما أصيب من الأموال حتى إنه لَيدِي مِيلغَةَ الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم دمٌ أو مالٌ لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذا المال الباقي احتياطاً لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ووافقوا شاكرين، ثم رجع الىٰ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبره الخبر. فقال: أصبت وأحسنت، ثم قام رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنه ليُرى بياض ما تحت منكبيه وهو يقول:
اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات 2.
إنَّ تثبيت الدولة يكون بإرخاء رواسي العدل والمساواة بين الناس، والإسلام جاء ليمحو أوضاع الجاهلية وما عليها من شنآن ويمشي في الناس بالحق والعدل ولا تزر وازرة وزر أخرى. وما قام به خالد لا علاقة له بالإسلام، بل هو الراسب الجاهلي المتحكم في عقل هذا الرجل الذي أسلم متأخراً ولا تزال رواسب الجاهلية في كيانه، فهو لم يستطع أن يترفع عنها مع أن النبي قال في خطبته البليغة أمام أهالي مكة: كل دم في الجاهلية فهو تحت قدميَّ هاتين.
وكأن خالد لم يسمع أو لم يعِ ما قاله المصلح الكبير، ولهذا تبرأ منه النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومن أفعاله، وتأثر لهذه الحادثة النكراء، وبعث علياً الذي هو نفسه ليمثله في رأب الصدع واستنكار الجريمة ودفع الديات وتعويض الخسائر المادية، حتى ميلغة الكلب - أي الجرن الذي يشرب منه الكلب، وهو وعاء من حجر أو خشب لا قيمة له - حتى يثبت الحق ويرسي دعائم العدل، ومن أولى من علي الأعلم الأقضى بفك الخصومات، وحلّ المشاكل وإرضاء الناس، وإعادة الأمور إلى نصابها. علي الحكيم في القضاء، والحكيم في المواقف ومداراة عواطف الناس حتى رجع والقوم مطمئنون كأنه لم يصبهم شيء، فبورك علي وبورك هذا اللطف الرسالي الذي يحمله بين حناياه، عالماً وقاضياً ومدافعاً عن الإسلام الحقّ.
وقفة عتاب خفيفة مع محمد حسين هيكل:
بلغ كتاب هيكل مجده، حيث وزع على أكثر الدول العالمية المهتمة بالتراث، خصوصاً أن هيكل كتب كتابه وفق الأنظمة الحديثة للكتابة، حتى يجعله مرجعاً سهلاً للباحثين الغربيين والشرقيين على السواء، ولكل من أراد أن يدرس حياة محمد صلى الله عليه و آله و سلم. والحق أن الكتاب اختصر التاريخ وأجاد كاتبه في كثير من المناسبات، بل حلق في بعض المواقف. والكتاب موفق كماً ونوعاً ومنهجاً واسلوباً.
غير أننا ونحن نعتز بأحد أهم كتاب العصر الحديث، نأسف لكاتب من هذا النوع - وهو يسبر أغوار التاريخ