58صورة جيدة لاخواننا العرب المسلمين. فهذا التراث العظيم - كما قلت - يحتوي علي معلومات هامة مما يتعلق بالحجاز عامة، وبالحرمين الشريفين خاصة.
وحيث إن بحثي المتواضع يتعلق بالقرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر الميلادي - فلا أجد لي الحقَّ أن أتجاوز عما كتبه الرحالة في هذا القرن. فإنّ في أيدينا من رحلات هذا القرن أكثر من عشر رحلات مخطوطة في المكتبة الأهلية ومكتبة مجلس النواب وإليكم أسماء بعضها:
1- الرحلة التي ألّفها ضياء الدين آل كيوان قارئ، كتبها عام 1229ه-. ق، (مكتبة مجلس النواب) .
2- الرحلة لمحمد حسن خان اعتماد السلطنة 1263ه-. ق، (المكتبة الرضوية، مشهد) .
3- الرحلة، لمحمد علي فراهاني عام 1263ه-. ق (مكتبة مجلس النواب) .
4- الرحلة التي كتبها سيف الدولة محمد بن فتح علي شاه القاجار عام 1279ه-. ق، (المكتبة الأهلية) .
5- الرحلة، لأحد أقرباء ناصر الدين شاه القاجار، دونها عام 1288ه-. ق، (المكتبة الأهلية) .
6- الرحلة، لأحد مقربي ناصر الدين شاه القاجار أيضاً، كتبها عام 1296ه-. ق، (المكتبة الأهلية) .
وهناك رحلات منظومة أيضاً كرحلة ميرزا جلاير (المكتبة الأهلية) ، ورحلة مشتري الخراساني وغيرها ( 1) .
وهناك رحلتان أُخريان كُتبتا في مستهل القرن الرابع عشر، إحداهما لميرزا علي خان أمين الدولة، والأخري لمخبر السطنة هدايت ولهاتين الرحلتين أهمية خاصة، حيث إن مؤلفيهما من الأدباء الفضلاء ومن رجال الدولة والسياسة. وقد تقلّد كلٌّ منهما منصب الوزارة، كما أن كلاً منهما تولي رئاسة الحكومة أيضاً. وهاتان الرحلتان مطبوعتان، ولكن لم تترجما إلي اللغة العربية بعد.
كلّ هذه الرحلات التي قدمناها في مجموعها، صورة من الحياة الاجتماعية في القرن الثالث عشر لسكان الحجاز، فتصف لنا أول ما تصف مثلاً لقاءات الحجاج بمطالع المروءة، واستقبال أهل الأحياء لهم، كالنساء اللاتي يستقبلن القوافل، ويعرضن عليهم الخبز والليمون، وتصف أزياء هن بأنها شملة زررقاء من الابريسم مطرّزة بالذهب و"جلابتون"، أوالأطفال الذين ينشدون حول القوافل:
سيدي اعط من زادك
الله يعطي مرادك
أو تصف طائفة تستقبل الحجاج حين دخولهم مكة، فتعطي لكل واحد تمرتين وفنجان من ماء زمزم، كما أنها تصف هجوم الأشرار علي القوافل ونهبهم الأموال وقتلهم الأنفس أحياناً كما أنها تسجل أسعار الأمتعة والأرزاق وأجرة الدور، مما يدل علي الوضع الاقتصادي، ومصدر الداخل لطبقة معينة، ومستوي معيشتهم في داك العصر. أو ما يصفون به مياه "ينبع" أنها من ماء المطر الذي يخزن في سراديب، فينقلب لونه إلي الزرقة، وريحه إلي العفونة، فينصرف الضمآن إلي شرب القازوز بدل الماء. وتذكر وصف الدراويش الذين يتجولون في شوارع مكة ليلاً، وينشدون القصائد بصوت عالٍ فلا يتمكن الانسان أن ينام من أصواتهم التي تشق أجواء الفضاء.
كل هذا لابد من أن يدرس؛ لكي يعلم مدي ما وصل إليه هذا القطر الشقيق المبارك، من السعة في العيش والرغدة في الحياة، وبلوغ الحضارة في ظل الأمن والسلام. ونتعرض الآن إلي بعض ما جاء في رحلة أمين الدولة ورحلة مخبر السلطنة هدايت:
جدة: الغالب في أبنية جدة بنايات ذات ثلاثة طوابق مبنية من الحجارة، وصحن العمارات مفروشة بالرخام وفيها حياض يجري فيها الماء من النافورات. واعتقد أن بعض هذه الدور يقارن الدور التي رأيتها في البلاد الغربية. ومن المعالم الأثرية، التي زرتها في جدة، قبر طوله خمسون خطوة، يقال إنه قبر أُمّنا حواء، وإلي جانبها صورة، ومن الغريب أن هذه الصورة هي صورة لنصف جسدها من ظهرها إلي رأسها، وإنني كدت أطير فرحاً وشوقاً لما نزلت من البحر إلي هذه الأراضي المقدسة، واغرورقت عيناي بالدموع حينما دخلت جدة، ولكن لما أراني دليلي شكل هذا القبر وتلك الصورة المضحكة زال عن قلبي كل الخضوع وغلبني الضحك من رؤية تلك الخرافة. .
مكة: أرض مكّة مكسوة بالرمال فيصعب علي الدواب السير عليها، ولذلك عبدوا بعض الممرات، التي يصعب العبور منها، بالحجارات المنحوتة.
تقع مكة في الجنوب الشرقي من البحر الأحمر، بينها وبين المدينة 80 فرسخاً، ويبلغ عدد سكانها - من القاطن والمجاور - ستين ألفاً، ولها ثلاثة أسوار كل سور داخل الآخر، وشوارع البلد متسعة، ولكن البيوت لا صحن لها.
ويصف أمين الدولة دور مكة فيقول: الدار التي نزلنا فيها دار جميلة ولها أزر من الرخام المصنوع، وفيه حياض عليها رؤوس الأسود وسائر الحيوانات، يجري منها الماء في الحوض، ولا يوجد في كثير من البلدان الإسلامية دور جميلة كهذه ولا في بعض البلدان الغربية أيضاً.
المسجد: يقع المسجد في وسط البلد، وطوله 400 ذراع وعرضه 304، فتبلغ كل المساحة 121600 ذراع، والكعبة - شرّفها الله - في وسط البيت. والمسجد غير مسقوف، إلا أنه يحاط بالايوانات المسقوفة من كل جانب، والسقف قائم علي 134 أسطوانة. وجدران المسجد مبنية من الحجارة السوداء. وللمسجد 18 باباً، منها باب النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) علي الجانب الشرقي، وعلي الجانب الأيسر منه زمزم ومقام حنبل، ومقام مالك وراء البيت، ومقام الحنفي علي جانب الشمالي، وأما الشافعي فلا مقام له.
كسوه الكعبة: وهي من الحرير الأسود مزركشة، تهدي كلّ سنة من جانب الموكب المصري، ففي يوم عيد الأضحي، يدخل أمير الحج المصري في المسجد وتدق الطبول أمامه وينفخ في الأبواق، فيقف عند الكعبة ويأتي عشرون خادماً سوداً فيخلعون الكسوة القديمة ويعقلون الجديدة عليها، وتهدي الخليعة القديمة للشريف، وهو يهدي قطعاً منها لذوي الشخصيات. يقول هدايت أهدي لي الشريف قطعة منها، وعليها صورة وردة كتبت من سورة الاخلاص وهي الآن زينة مكتبتي.
الصفا والمروة: وهما نهدان علي طريق باب النبي، بينهما سبعون خظوة (*) ، والأرض غير مسطحة، فاالساعي لابد من ان يتحمل مشقة كثيرة لا محالة. ولما كان بعض الحجاج يسعي علي ظهر الدابة فكثيراً ما تري الأرض ملطخة بالأرواث والقذارات، والروائح الكريهة هنا لا يمكن أن تتحمل.
عرفات: والحق أنها عرصات من كثرة الازدحام واللغط والضوضاء والضجيج. وفيها قناة تجري علي وجه الأرض؛ والشجر الطرفاء هناك كثير. وفي جبل عرفات قرود كثيرة، سمعت أن بعض الحجاج يصطادون صغارها ليذهبوا بها إلي أوطانهم وهذا أمر غريب؛ لأن الصيد في مكة محرم وخاصة للمحرم في عرفات.
مني: تقع مني بين الجبلين وفيها ميدان فسيح يضرب الحجاجُ فيه خيامهم. وهناك ماء يجري من قناة تعرف بقناة زبيدة، يقال إنّ زبيدة زوجة هارون الرشيد العباسي أجرته فيها. وفي مني تقام أسواق الهند والمغرب والروم لمدة ثلاثة أيام تعرض فيها أمتعة هذه البلاد.
ونحرنا بمني في يوم العيد، ومسألة النحر هناك مؤسفة جداً، حيث إن هناك يذبح حوالي ألف من غنم وجمل، ثم تدفن جثثها تحت التراب لئلا تفسد. فلماذا لا يقوم فقهاء المسلمين وزعماؤهم باتخاذ تدبير بشأن هذا؟ .