50وثانياً: بأنّه علي تقدير دلالته علي الفور فإن هنا قرينة تصرفه الي الترخي وهي " أنّ الحج عبادة لا تنال إلاّ بشق الأنفس ولا يتأتّي الاقدام عليها بعينها بل يقتضي التشاغل بأسبابها والنظر في الرفاق والطرق، وهذا مع بعد المسافة يقتضي مهلة فسيحة لا يمكن ضبطها بوقت، وهذا هو الحكمة في اضافة الحج إلي العمر " 58.
والجواب عنه: أن ما ذكر قرينة علي التراخي يفيد عكس المدّعي فإنه علي الفور أدلّ منه علي التراخي، بل إنّه يدلّ علي الفور بالتعيين، فإنّ المراد بالفور أوّل عام الاستطاعة، والاستطاعة تتضمّن كلّ ما ذكر من المقدّمات التي يتوقف عليها الحج، فإذا كانت الاستطاعة وفق ما ذكر لا تحصل إلاّ بتهيّئ هذه المقدّمات الكثيرة، فاذا حصلت لزم العجيل في أداء الواجب خوفاً من فوات الفرصة، وعروض ما يمنع أو زوال بعض المقدّمات التي لا تتوفر بسهولة. والحاصل أنّ المقدّمات التي يتوقف عليها أداء فريضة الحج إذا كانت من التعدّد وصعوبة الحصول بحيث لا تتوفر للكثيرين إلاّ مرة واحدة في العمر ممّا اقتضي وجوب الحج مرة واحدة في العمر - كما أشار المعترض في كلامه - فإن هذا يقتضي لزوم اغتنام فرصة توفر المقدمات وحصول الأسباب وعدم جواز تفويت الفرصة وهذا يستلزم وجوب الفور، لا جواز التراخي.
ومن هنا يمكن أن يقال: إنه علي فرض التسليم بعدم دلالة الأمر علي الفور لكن القرينة تقتضي دلالته علي الفور هنا، والقرينة ما ذكرناه.
أما الثاني: فقد اعترض عليه اولاً: " بأنّه ضعيف، وثانياً: بأنّه حجّة للقائل بالتراخي، لانّه فوض فعله إلي إرادته واختياره، ولو كان علي الفور لم يفوض تعجيله إلي اختياره، وثالثاً: انه امر ندب جمعاً بين الأدلّة " 59.
والجواب عن الأوّل: أنه علي فرض ضعفه يتأيّد بسائر الاحاديث الواردة في هذا الباب، وبمجموعها تفيد الاطمينان بصدور مضمونها عن النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) .
وعن الثاني: أنّه ليس في الحديث تفويض الفعل إلي ارادة المكلّف ليكون حجّة للقائل بالتراخي، بل الحديث يفترض إرادة الحج مفروغاً عنها ويثبت وجوب التعجيل لمن يحمل هذه الصفة وهي (إرادة الحج) ، وبما أنّ الامر بالتعجيل انما يناسب من اراد الحج الواجب، فانّ المتطوع بالحج لا يجب عليه اصل فعله، فكيف بالتعجيل فيه، فيكون معني الحديث، ان من توفرت فيه شرايط الحج الواجب فعزم علي أداء الفريضة فعليه التعجيل في الأداء، وهذا يعني وجوب الفور بالحج.
وعن الثالث: ان الحمل علي الندّب انما يصحّ عند وجود القرينة علي خلاف الوجوب أو المعارض، وكليهما منتفيان، فلا وجه للحمل علي الندب.
أما الثالث والرابع: فيعترض عليهما بضعف السند تارة واخري بأنّ المراد النهي عن تأخير الحج الي حين الموت، ولا نزاع في حرمته.
والجواب عن ضعف السند نفس ما اجبنا به عن الاعتراض بضعف السند علي الحديث السابق، مع زيادة ان حديث أبي امامة مروي بطرق متعدّدة يقوّي بعضها بععضاً، قال الشوكاني في تعليقه علي هذا الحديث: وهذه الطريق يقوي بعضها بعضاً، وبذلك يتبين مجازقة ابن الجوزي في عدّه لهذا الحديث من الموضوعات، فان مجموع تلك الطرق لا يقصر من كون الحديث حسناً لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني: " لا يصحّ في الباب شيء، لأنّ نفي الصحّة لا يستلزم نفي الحسن " 60.
وامّا عن الدّلالة، فدلالة حديث ابن عبّاس علي الوجوب واضحة، فانّ فيها الامر بالتعجيل والامر يفيد الوجوب، ولم يعلّق التعجيل فيه علي خوف عروض الموت، فيدّل علي وجوب الفور بالحج. واما الحديث أبي