5
. . في الأبعاد الروحية:
واذا كان الحج من حيث هو عبادة ذات مضمون عملي وروحي، يحقق للإنسان هذا الارتفاع الروحي، فإنه يساعد علي تغيير الواقع من خلال تغييره للإنسان إنطلاقاً من الوحي القرآني في الإسلام الذي يعتبر الإنسان أساس التغيير كما جاءت به الآية الكريمة : إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتّي يغيّروا ما بأنفسهم. . وبذلك تدخل العبادة في عمق حركة الحياة، ولاتبقي حالةً طارئةً طافيةً علي السطح. . وهكذا يستطيع العاملون للإسلام - في أساليبهم التربوية العملية - أن يشجّعوا الناس علي ممارسة هذه الفريضة؛ لتحقيق هذا المستوي من التغيير الداخلي في حياة الإنسان، كوسيلةٍ متقدمة روحية من وسائل التغيير الخارجي لحركة الحياة. . فإن ما يختزنه الفرد من الطاقات الروحية الجديدة في أجواءالحج، هو أعظم من كثير من الأساليب الخاطبية التي اعتاد الناس ممارستها في عملية التربية. .
وقد رأينا الكثيرين الذين كانوا لا يعيشون المشاعر الروحية في منطلقاتهم، في الوقت الذي كانوا يمارسون فيه الالتزام الإسلامي في بعض مبادئ الإسلام وأحكامه. . قد تغيروا كثيراً بعد قيامهم بهذه الفريضة بطريقة واعية بحيث استطاعت أن تغير مجري تفكيرهم وشعورهم فيما يعيشون فيه من فكر وشعور. . وتحوّلوا إلي عناصر فاعلة واعية في حركة الإسلام في الدعوة والعمل.
ولكن هل هذا كله هو ما تعنيه لنا هذه الفريضة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا هذا التأكيد علي وحدة المكان الذي تمارس فيه، وعلي هذا الحشد العظيم من الناس الذي تتنوع أجناسه وألوانه وقومياته ولغاته. . بطبيعة شمول الإسلام كدين لكل هذه الأنواع من الناس. . ؟ لماذا لم يكن كالصوم وكالصلاة اللذين يمارسهما الإنسان في نطاق فردي أو جماعي حسب اختياره. . ؟ هل هناك سرّ يتعدّي الجانب التربوي الفردي إلي الجانب الإجتماعي والسياسي؟ هذا ما نحاول أن نستوحيه فيما نريد أن نثير من حديث.
المنافع العامة:
إنّ أوّل ما نلتقيبه من نصوص الحج هو النداء الأوّل الذي وجّهه الله للنبي إبراهيم ( عليه السلام) في دعوة الناس إلي الحج. . وذلك في قوله تعالي: وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلي كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍ عميقٍ لِيشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيّامٍ معلوماتٍ علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير.
فإننا نجد في هذا النداء دعوةً إلي أن يشهدوا منافع لهم من دون تحديدٍ لطبيعتها وحجمها، للإيحاء بالانطلاق في هذا الاتجاه للبحث عن كل المجالات النافعة التي يمكن لهم أن يحققوها من خلال الحج في حياتهم الفردية والاجتماعية إلي جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر الله في ايّام معدوداتٍ، شكراً لنعمه وتعظيماً لآلأئه وتطبيقاً لتعليماته في توجيه هذه النعمة إلي ما أراده من الإنفاق علي الفئات المحرومة البائسة.
وقد يثير القرآن أمام بعض المواضيع حالةً من حالات الإبهام والغموض من أجل أن يدفع الإنسان إلي البحث، في كل اتجاهٍ يتعلق بالموضوع ليحقق الشمول والامتداد في آفاقه فلا يتجمّد أمام فرضيّةٍ واحدةٍ، أو وجهٍ معين، أو اتجاهٍ خاص. . وبهذا يكون التشريع حركةً متجدّدة في خطّ الإبداع والنمو والتقدم. .
2- ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام) فيما حدّث به هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبدالله ((جعفر الصادق)) فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحج والطواف بالبيت؟ فقال: إنّ الله خلق الخلق. . (إلي أن قال) وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من االشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلي بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال ولتعرف آثار رسول الله ( صلّي الله عليه وآله وسلّم) وتعرّف أخباره، ويذكر ولا ينسي. ولو كان كل قوم إنما يتكلون علي بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم تقفوا علي ذلك، فذلك علّة الحج. .
3- عن الفضل بن شاذان عن الإمام علي الرضا ( عليه السلام) قال: إنما أُمروا بالحج لعلّة الوفادة إلي الله - عزوجل - وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً ممّا مضي، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس [الانفس] عن اللذات شاخصاً في الحرّ والبرد ثابتاً علي ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، ممّن يحج وممّن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشترٍ وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف من المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقُّه ونقل أخبار الأئمة إلي كل صقعٍ وناحية كما قال الله عزّوجل: فلو لا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون. وليشهدوا منافع لهم. . . . .