4
قيمة الحجّ بين العبادات:
والحج من هذه العبادات الإسلامية التي أرادها الله للناس، لتتحقق لهم من خلالها النظرة الشاملة لقضية الإنسان في الحياة. . فقد جعله الله فريضة علي كل من استطاع إليه سبيلاً، واعتبر تركها خروجاً علي عمق الالتزام الإسلامي، حتي جعل التارك لها في حكم الخارج عن الإسلام. . وقد تعبّد الله به عباده منذ النبي إبراهيم ( عليه السلام) وجاء الإسلام فأضاف إليه شروطاً وأحكاماً وحدّد له أهدافاً، ورسم له خطوطاً من أجل أن يحقق للإسلام الدور الكبير في الحياة، في فاعلية وامتداد، فلم يقتصر فيه علي جانب واحد من جوانب التربية، بل استوعب المعاني التي تنطلق من العبادات الأخري، فشرّع الإحرام في كل التزاماته وتروكه؛ ليحقق للإنسان أهداف الصوم، ولكن في أسلوب متحرّك متنوع لا يخاطب في الإنسان جوع الجسد وظمأه، ولكنه يخاطب فيه جوانب أخري، تهذب فيه نزعة القوّة فتوحي له بالسلام، ونزعة التعلق باللّذة فتوحي له بالانضباط والتوازن، ونزعة الترف فتقوده إلي الخشونة، ونزعة الكبرياء فتوجهه إلي التواضع، وتعلّمه كيف يحرّك الفكر والثقافة والمعرفة، في اتجاه الحق بدلاً من الباطل لتبقي المعرفة سبيله الوحيد في حركة الكلمة و الفكرة، وشرّع الطواف و جعله صلاة؛ ليعيش معه الإنسان آفاق الصلاة وروحيتها فيما يمثله من طواف حول البيت، الذي أراده الله رمزاً للوحدة بين الناس، في معناه الروحي المتصل بالله، لا في مدلوله المادي المتمثل بالحجارة، وللإيحاء بأن الحياة لا بد من أن تتحول إلي طوافٍ حول إرادة الله، فيما يتمثل في بيته من مشاعر الطهارة والنقاء والخير والبركة والرحمة والمحبّة. لتكون الحياة حركة في طريق الأهداف الي يحبّها الله ويرضاها، ويريد لعباده أن ينطلقوا معها في رساليّة ومسؤوليّة. .
وفرض السعي بين الصفا والمروة؛ ليعيش الإنسان معه االشعور الواعي بأن خطواته لا بد من أن تتجه إلي الجالات الخيّرة؛ ليكون سعيه سعياً في سبيل الخير، وابتعاداً عن طريق الشرّ، فهو يسعي هنا لا لشيء إلا لأنّ الله أراد منه ذلك ليحصل علي القرب منه. . مما يوحي بأن السعي هنا إذا كان للحصول علي مرضاة الله فيما تعبّدنا به من أمره ونهيه، فينبغي لنا ان نطلق السعي في مجالات الحياة الأخري، في كل آفاقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في الاتجاه نفسه لنحصل علي رضاه في كل أمورنا. .
أمّا الوقفات التي أرادها الله في عرفات والمشعر ومني، فإنها وقفات تأمل وحساب وتدّبر وانطلاق؛ ليستعيد فيها الإنسان مبادئه التي قد تضيع في غمرات الصراع، التي يخوضها في سبيل لقمة العيش، أو في سبيل تحقيق رغباته ومطامعه المشروعة وغير المشروعة، فإنّ الإنسان قد يفقد الكثير من قيمةِ الكبيرة، تحت تأثير النوازع الذاتية من جهة، والتحديات المضادّة التي قد تخلق لديه ردود فعل متوترة، - من جهة أخري - فينسي في غمرة ذلك كله الكثير الكثير مما يؤمن به أو يدعو إليه. . الأمر الذي يجعله بحاجة إلي مزيد من التأمل والمحاسبة، التي يرجع فيها إلي فكره وعقيدته وخطه المستقيم في الحياة.
وجعل الأضحيّة رمزاً حيّاً للتضحية والعطاء فيما يرممز إليه من تاريخ إبراهيم و إسماعيل، عندما أسلما لله الأمر وانتصرا علي نوازع الأبوّة في عاطفتها تجاه النبوة، وعلي حب الذات في إحساس الإنسان بحياته. . وانتهي الأمر إلي أن فداه الله بذبح عظيم، وفيما يريد أن تثير في حياة الإنسان في كل زمان من السير علي هدي هذه الروح؛ ليكون ذلك خطاً عملياً، تسير عليه الحياة في كل مرحلة تحتاجها للتضحية والعطاء. . وكان رجم الشيطان، إيحاءً بما يريد الله للإنسان أن يعيش في حياته كهمّ يومي يواجه فيه خطوات الشيطان في فكره وعاطفته وقوله وفعله، وانتماءاته وعلاقاته العامة والخاصة. وربما كان في هذا التكرير في الفريضة لرجم الشيطان الرمز إشارة بأن قضية محاربة الإنسان للشيطان ليست قضية حالة واحدة يعيشها الإنسان ويتركها، بل هي قضية متجددة في كل يوم. . وهكذا يمكن أن يساهم الحج في إيحاءاته ورموزه وأجوائه الروحيّة، في تنمية الشخصية الإنسانية من الجانب التأملي والعملي والروحي، فيما إذا عاش الإنسان هذه الفريضة من موقع الوعي المسؤول؛ لذلك لا يبقي مجرّد عبادة يهرب فيها الإنسان من الواقع ليغيب في مشاعره الذاتية في جوٍّ مشبعٍ بالضباب، كما يحاول البعض أن يصوّر العبادة. . وفي هذه الأجواء الروحية الواعية المتحركة في خط المسؤولية يمكن أن يعود الإنسان الفرد من رحلة الحج إنساناً جديداً في أهدافه ومنطلقاته وخطواته، من خلال ما عاشه من دروس وعبر ومواقف تأمّلات، حيث الطهر والخير والمحبّة والحنان، ولعلّ هذا هو ما يريد الإسلام أن يوحيه للحاجّ فيما ورد في الأحاديث التي توحي بأن الإنسان يخرج من الحج كيوم ولدته أمّه، وأنه يقال له استأنف العمل من جديد. . وذلك في نطاق المضمون الداخلي للحج، لا من خلال الشك الخارجي الذي يؤديه الكثيرون بدون روحٍ وبدون معني ممن يعيشون الحج عادةً وتتقليداً وسياحةً وتجارةً فينطبق عليه ما ورد عن أحد أئمة أهل البيت ( عليه السلام) عندما نظر إلي الجموع المحتشدة في الموقف، أو في بيت الله فقال: (( ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج)) ! إذا لا قيمة للعدد إذا لم يكن متحركاً في عمق القيم الروحية في الحياة، فرب رقم صغير يحقق للإنسانية معني كبيراً هو أفضل من رقم كبير لا يحقق شيئاً للحياة إلا زيادةً في الساحة والحجم علي صعيد الأرض، من هؤلاء الذين يكونون عبئاً علي الحياة بدلاً من أن يكونوا قوّة لها.