3
الحجُّ عبادة و حركة و سياسة
تأليف: محمّد حسين فضل الله
لعلّ من أبرز خصائص الإسلام في تشريعاته العبادية والحياتية، هو هذا الشمول في النظرة الي الإنسان، فيما يريد أن يحققه من غايات في تنمية شخصيته، وفي مسيرة حياته انطلاقاً من الكفرة الواقعية التي لا تنظر إلي الإنسان الكائن علي أنه ذوبُعد واحد، ليمكن لنا أن نعالج أوضاعه من جهة واحدة، بل هو كائن ذو أبعاد تلتقي فيها الشخصية الفردية بالشخصية الاجتماعية من دون أن تسمح احداهما في خصائصها الذاتية بالانفصال عن الاخري، كما يمتزج في داخلها الجانب الروحي بالجانب المادي، فليس هناك عنصر مادي تختنق فيه النفس في داخل الأسوار المادية، وليس هناك عنصر روحي تحلّق فيه النفس بعيداً بعيداً عن المادة، في حالة تجريدية رائعة. . بل هي المادة النابضة بالروح أو الروح المنطلقة في حركة المادة.
وفي ضوء ذلك أكّد الإسلام علي ممارسة الإنسان للحياة بشكل طبيعي واعتبر الانحراف عن ذلك خروجاً عن التوازن والاستقامة في انطلاقة الإنسان المسلم في الحياة، فقد جاء في بعض الكلمات المأثورة (( ليس منا من ترك دنياه لآخرته ومن ترك آخرته لدنياه)) ، كما جاء في الحديث الشريف، (( من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)) ، وقوله ( صلّي الله عليه و آله وسلّم) :
(( لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها)) . . مما يعني أن العزلة عن الحياة لا تمثل قيمة كبيرة من قيم الإسلام في الحياة، كما أن الفردية المغرقة في ذاتيتها المختنقة داخل قضاياها الخاصة، تمثل ضدّ القيمة في السلوك الإنساني في نظر الإسلام.
وربما كان من خصائص هذه النظرة الشمولية للإنسان، أنّ الإسلام يريد لأيَّة قضية من قضايا الإنسان، ولأيّة ممارسة من ممارسة، أن تتحرك في خط القضايا والممارسات الأخري، بحيث تكمّل نقصاً فيه، أو تسدّ فراغاً في وجوده. . فإذا تحرّك الإسلام في خط التربية الفردية لحياة الإنسان، فإنه يريد - من خلال ذلك - أن يختار له من الصفات الكريمة ما يرفع مستوي إنسانيته، ويحقق له الشخصية الخيّرة في الحلق الاجتماعي، فلا قيمة للعلم مهما بلغت درجة صاحبه فيه، إذا لم يرتفع بالإنسان إلي مستوي العطاء الذي يفتح فيه الإنسان من نفسه مدرسة للآخرين ويحقّق للحياة من فكره خبرةً واسعة تمنحها فرصة النّمو والتقدم والازدهار، ولا قيمة للقوّة إذا لم تستطع أن تتحول إلي عنصر من عناصر القوّة التي تنقذ الآخرين من عوامل الضعف الإنساني. . وهكذا يجد الإسلام في الكمال الفردي الإنساني مفتاحاً للدخول إلي الكمال الإنساني الاجتماعي. . ويوحي بالفكرة التي تعطي للخصائص الأخلاقية قيمتها الكبيرة، إذا استطاعت أن تحقق للإنسان ذاته في حركته في قلب المجتمع، وترفض منح القيمة للّذين يمارسون عمليّة النمو في العزلة البعيدة عن الحياة.
وقد أراد الإسلام أن يثير هذه النظرة الشمولية في تشريعه للعبادات. . فقد جاء الإسلام إلي الحياة، والتقي بالنظرة الروحية التي تعتبر العبادة شأناً من شؤون السماء ولا علاقة لها باأرض فليس من المفروض للعبادة في قيمتها الروحية أن تحقق هدفاً كبيراً تتحرك - علي أساسه - في شؤونها الاجتماعية واسياسية والاقتصادية، بل كلّ دورها ومهمتها، أنّها ترتفع بالروح الإنسانية إلي الله في غيبوبة روحية خالصة، يعيش فيه الإنسان روحانية الخشوع والخضوع والعبودية لخالقه، فيحس معها بالسعادة والنشوة والامتداد في أجواء المطلق والقرب من الله. . وبذلك كانت الرهبانية مظهر السمّو في الروح والإخلاص في العبادة لأنها تعزل الإنسان عن كل زخارف الحياة وشهواتها ومشاكلها وقضاياها الصغيرة، وتربطه بالله. . .
وبدأ الإسلام تغيير هذه النظرة إلي العبادة من خلال تغييره للنظرة إلي دور الإنسان في الحياة. . فإذا كان الإنسان خليفة الله في الأرض، واذا كانت الأرض هي الساحة التي يريد الله لعباده أن يحققوا فيها إنسانيتهم في خطّ السمّو الذي ترسمه لهم رسالاته ويخططوا في جوانبها برامجهم في شؤون النّمو والتقدّم والازدهار علي أساس سنن الله في الأرض. . فإن معني ذلك أن الدور الإنساني في رعاية حركة الحياة وإدارة شؤونها وتخطيط مراحلها وبرمجة أهدافها ليس بعيداً عن ارادة الله ومحبته ورضاه بل ربّما كان في القرب من الله، والتأكيد علي عمق عبوديته له - فيما تمثله العبادة - باعثاً علي تحقيق هذه المعاني في نفس الإنسان وحياته بطريقةٍ أفضل، وبإخلاص أكمل. .
وقد أعطي الإسلام العبادة - في هذا الاتجاه - معناها الجديد، وطابعها المميّز ودورها العملي، فلم تعد مجرد حالة وجدانية روحية ذاتيتة يعيش فيها الإنسان معه ربّه، بل تحولت إلي قاعدة من قواعد التربية التي تتنوع فيها الممارسة لتحقق للإنسان أهدافاً عملية، في حركة شخصيته، وفي مجري حياته العامّة والخاصة. . فأصبح الإنسان يعيش فيها مع ربّه، ليلتقي - من خلاله - بحياته، فيملأها بكل المعاني والأهداف والقيم الكبيرة التي يحبها الله ويرضاها، ويحب الناس الذين يعيشونها في عمق الروح، وفي امتداد الحياة كما يوحي بذلك الحدديث المأثور والشريف (( الخلق عيال الله، وأحبهم إلي الله أنفعهم لعياله)) .
فإذا التقينا بالصلاة في الإسلام فإننا نجدها - في القرآن الكريم - وسيلةً من وسائل تنمية الشخصية في خط الخير والصلاح والسمو الإنساني فيما يمثله خط الابتعاد عن الفحشاء والمنكر فيما ورد من قوله تعالي: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر. . . وفيما يوحي به الحديث الشريف ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعداً. . وفيما عبر عنه قوله تعالي: فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون مما يوحي بأن الصلاة تدخل ففي قيمتها الدينية في عمق الحياة الفردية والاجتماعية، بقدر ما يتعلق الأمر بالقيم الإيجابية والسلبية التي تحققها الصلاة في حركة الحياة للإنسان. . سواء في ذلك ما يمارسه الإنسان في حقله الفردي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، انطلاقاً من شمول كلمة الفحشاء والمنكر لكل الأوضاع السلبية، التي يريد الإسلام للإنسان الابتعاد عنها في جميع هذه الأمور، فلا قيمة لصلاة الطغاة والمتكبرين والظالمين والمتعاونين معهم، والخائنين لأمتهم ولدينهم، كما لا قيمة لصلاة السارقين والكذابين والزناة والمغتابين والنمّامين والآكلين للحرام من مال أو طعام. . لأن الصلاة لم تحقق للإنسان شيئاً عملياً في خط الاستقامة أو البعد عن الانحراف. . الأمر الذي يجعل الناس لا يُخدعون بصلاة المنحرفين عن الإسلام في قيمته وشريعته، فيبتعدون بذلك عن السذاجة والبساطة في تقديرهم للأمور، في مواجهتهم للواقع، فإذا رأوا إنساناً مسؤولاً يؤدي صلاته في خشوع، فعليهم أن ينتظروه ليخرج من المسجد وينفصل عن أجواء الصلاة، وينتقل إلي مجالات الحكم والسياسة والإدارة ليعرفوا - من خلال ذلك - كيف تمتّد الصلاة داخلَ حياته في هذه المجالات، أو كيف تبتعد عنها تماماً، ليحدّدوا موقفهم علي أساس ذلك كما ورد في الحديث المأثور عن أئمة اهل البيت، الذي يرفض أن يكون طول الركوع والسجود مقياساً لمعرفة الرجل؛ لأن ذلك ربما يكون جارياً مجري العادة التي يستوحش الإنسان إذا تركها، واعتبر المقياس - بدلاً من ذلك - صدق الحديث وأداء الأمانة؛ لأنهما يدخلان في عمق الشخصية الإسلاميّة. . فإذا التقينا بالصوم نجد أن الله جعله فريضة يحقق للإنسان من خلالها شخصيته التقيّة التي تقف عند أبواب الحرام المفتوحة أمامها فلا تدخلها، كما يؤكد فيها الإنسان حسّه الإنساني ومشاعره الروحية، والاجتماعية. . عندما يجد طعم الجوع والظمإ في إحساسه بالصوم؛ فيتذكر جوع الجائعين وظمأ الظامئين فيفهم معني مشكله الجوع والظمأ من موقع المعاناة الذاتية، لا سيما إذا كان غنيّاً لا يعيش الحاجة إلي الأشياء من خلال حياته العادية؛ لأنه إذا أراد شيئاً حصل عليه، وهكذا كان دور الصوم إنسانيّاً اجتماعيّاً إلي جانب الدور الروحي الذي يحقق فيه الإنسان علاقته الروحية بالله. . ومن الممكن للإنسان أن يتعلم من الصوم: الرفض العلمي لكل الأوضاع المنحرفة في الواقع السياسي والاجتماعي اِنطلاقاً من إرادته الإسلامية القويّة التي ترفض الحرام في العمل الفردي؛ لترفضه في نهاية المطاف في الواقع الاجتماعي والسياسي العام.