38فأعمال الحج في واقعها رموز إلهية بروح توحيدية جاءت من الخليل محطم الأصنام، وأدت الغفلة عنها، والغربة عن أسرارها ورموزها، وعدم فراغ القلب من سوي المطلوب، والدوران دون حضور القلب، إلي الخسران.
والأهم من كل ذلك هو الربط بين تلك الرموز والشعائر، في تلك المواقف والمناسك، وبين العالم الخارجي الذي سيواجهه الحاج في الحج الابراهيمي، العالم الذي يحب أن يحياه ديناً وقلباً ودنياً وفق نهج إبراهيم (عليه السلام) ومحمّد (صلي الله عليه وآله وسلّم) أي وفق الاسلام، وبالجمع بين هذه الثلاثة يكون قد سلك النهج الذي أطلقه الخليل (عليه السلام) والحبيب (صلّي الله عليه وآله وسلّم) .
كان حج المشركين حجاً جاهلياً، إذ كانوا يتوجهون بعد وصولهم مكة إلي الأصنام يظهرون لها خضوعهم، وفي عرفة والمزدلفة ومني كانوا دائماً بذكرها أو بجوارها، ففي مني وضعت سبعة أصنام بالقرب من الجمرات الثلاث ليعظمها الحجيج بعدها، وكان مكان الأضاحي (الهدي) في مني مليئاً بالانصاب إذ كان المشركون يمسحونها بدماء الأضاحي.
جاء في سيرة ابن هشام نقلاً عن معاوية بن زهير:
فأُقسم بالذي قد كان رَبِّي
وأنصاب لدي الجمرات مُغرِ49
وبعد انتهاء الحج كانوا ينشرون لباس الاحرام حول الأصنام.
إنّ ما يتحصّل من الأشعار والآثار الجاهلية والباقية، هو أن أداء المناسك كان يترافق مع التلبية بصوت عال، وتجدر الاشارة إلي أنّه لم يكن ثمّة وجود للتلبية المختصة بحج إبراهيم (عليه السلام) والتي مفادها: لبيك اللّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك. . ، بل إنّهم غيروا التلبية لتتوافق مع عقيدة الشرك لديهم، إذ كانت كالآتي:
لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك! إلاّ شريكُ هو لك! تملكُهُ وما مَلَكْ50!
ويظهر في هذه التلبية الاعتقاد بالشريك، وقد كشف القرآن الكريم عن عقيدتهم المشركة في قوله تعالي: وَمَا يُؤْمِنُ اَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ51 .
وقد اعتبر ابن الكلبي أنّ هذه التلبية مختصة بنزار، بينما رأي ابن اسحاق وابن حبيب أنّها مختصة بقريش، وقال الأزرقي: إنّها متعلقة بكلّ المشركين، وممّا لا شكّ فيه أنّ التلبية التي يؤديها أهل الحرم يمكن أداؤها من قبل أهل الحل.
ونقل اليعقوبي والازرقي، أنّ كل قبيلة كانت أثناء الحج تهلل حول صنمها حتي تصل مكّة، "ذلك أنّ عبّاد كلّ صنم كانوا إذا أرادوا الحج، اِنطلقوا إليه، واهّلوا عنده، ورفعوا أصواتهم" 52، وكذلك: "إذا أرادت حجّ البيت وقفت كلّ قبيلة عند صنمها، وصلّوا عنده" 53.
وكان لعبّاد كل صنم من القبائل المختلفة تلبيات خاصة، ومن بين هذه الأصنام كان لكل من اللات والعُزّي ومناة وهُبَل وذو خَلَصَة وذو كفين وجهار وذُرَيح وذولبّا وسعيدة وشَمُس ومُحرِّق ومَرْحِب ونَسْر ويعوق ووَدّ ويغوث تلبية خاصة به، وهي مذكورة في المصادر التاريخية، وقد أحجمنا عن إيرادها مراعاة للاختصار.
وعدا هذه الأصنام، كان لقبائل كنانة وثقيف وهُذيل وبجيلة وجُذام وعكّ وأشعر وربيعة وقيس وعيلان وبني أسد وتميم ومذحج وهَمْدان وبكر بن وائل وبني معدّ وبني نَمر أصنامهم، ولها تلبيات خاصة أيضاً.
وكانوا يصفقون ويصفّرون لدي ترديدهم التلبية.
يمكن القول: إنّ الحج الجاهلي كان مزيجاً من الشرك والتفاخر القبلي، والأغراض التجارية والأهداف السياسية والقومية، لذلك سعت كلّ قبيلة أثناء الطواف لاستعراض مظاهر هذا المزيج غير المتجانس من خلال رفع الأصوات.
وقد عبر القرآن الكريم عن حركة المشركين هذه لدي الطواف بقوله تعالي:
وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً 54.
وبعد مني كان المشركون يتوجّهون إلي مكة إذ يبقون فيها ثلاثة أيام، تسمي بأيام التشريق، وقد ذكروا أقوالاً في وجه تسميتها: منها طبخ لحم الأضاحي بأشعة الشمس، ومنها نحر الأضاحي عند طلوع الشمس، وكانوا يهتمون بهذه الأيام لكنها لم تكن من أركان الحج الاساسية.
كان علي غير أهل الحُمْس، أثناء الطواف إما أن يرتدوا ثياباً استعاروها أو استأجروها، وإما أن يطوفوا عراة، وهذا يتعلق بمن يأتي إلي الحج للمرة الأولي.
وكان أهل الحل يتركون ثيابهم بعد الطواف في محل قرب مكة، ولا يحق لهم ارتداؤها مرة أُخري، وتسمي هذه الثياب لَقّي55، إذ لا يمكن الاستفادة منها بسبب تعرضها لأشعة الشمس وتغيرات الجو ورثاثتها.
كان الطواف حول البيت، دون ثياب أمراً دارجاً وكان يطال حتّي النساء.
فقد نقل أن امرأة جميلة لم تجد ثياباً فاضطرت إلي الطواف عارية، ممّا دفع جمعاً كثيراً إلي الاحتشاد لمشاهدتها.
ونقل أيضاً أن بعض المشركين كانوا ينتهزون هذه الأيام، فيتحلقون حول الكعبة لرؤية هكذا مشاهد، وكان خُفاف بن نُدبة يسعي لرؤية عشيقته، وكما قال فانه استطاع ان يراها عارية في هذه الأيام، إذ جاء عنه:
وأبدي شهور الحج منها محاسناً
ووجها متي يحلل له الطبيب يُشرق56
ويجب البحث عن جذور هذا الطواف في مصالح الحُمْس الذين سعوا عبر إيجار الثياب ولمرة واحدة، أن يضمنوا لأنفسهم مصدراً مالياً، وكان أهل الحل في بعض الأحيان لا يستجيبون لهذا الأمر، إذ كانوا فقراء معدمين من جهة، وكانوا يرفضون الخضوع لامتياز قريش وقراراتها الاستعلائية من جهة ثانية، ولمّا كان الغرض من الحج ترسيخ التقاليد القبلية والجاهلية، فقد كانوا مستعدين لأن تطوف حتي نساؤهم عاريات.
وحسبما نقل ابن كثير فان الآية نزلت للحيلولة دون هذا العمل يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ. . . 57.
ووضعوا إساف ونائلة قرب الكعبة، الأولي بجوارها، واْلأُخري عند زمزم، وعلي الحاج أن يبدأ طوافه أوّلاً من إساف وبعد أن يستلم الحجر الأسود ويختم طوافه، يستلم الحجر الأسود مرة ثانية، وبعد ذلك ينتهي طوافه باستلام نائلة.
وحسب تقاليد المشركين لم يكن طواف الحج والعمرة تعبدياً دائماً، إنّما كان أحياناً للتعبير عن الغضب والشر وإشهاد البيت علي ظلم الأعداء.
" نقل أنّ أبا جُندب بن مُرّة القِرْديّ كان له جار من خُزاعة اسمه خاطم، فقتله زهير اللحياني وقتلوا امرأته، فلمّا برأ ابو جندب من مرضه خرج من أهله حتّي قدم مكّة، فاستلم الركن وكشف عن إسته وطاف، فعرف النّاس أنّه يريد شرّاً " 58.
كان السعي بين الصفا والمروة جزءاً من الطواف عند الحُمْس وربما عند غيرهم، ولكن لم يؤده جميع المشركين.
وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر الخليل (عليه السلام) إلاّ أنّه ترك ومسخ، وبعد ظهور الاسلام وفتح مكة أمر رسول الله ( صلّي الله عليه وآله وسلّم) بادائه إذ قال تعالي:
إنّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَليْهِ أنْ يَطَوَّفَ بهمَا. . . 59.
الهوامش:
(1) الوثنية في الأدبَ الجاهل، الدكتور عبد الغني زيتوني: 273.
(2) الحج: 26-27.
(3) تاريخ العرب قبل العروبة الصّريحة في جزيرة العرب، محمّد عزة دروزة: 115-116.
(4) Booth, the historical library of diodorus the sicilian P.105
(5) تاريخ العرب في الاسلام: 45 - 47.
(6) نفس المصدر: 47 - 48.
(7) تاريخ الجاهلية، الدكتور عمر فرّوخ: 109.
(8) الشوري: 7.
(9) محمّد: 13.
(10) الزخرف: 31.
(11) Encyclopaedia of religion and ethics, by Hasting Vol. 8, P. 511
(12) مروج الذهب 164: 2.
(13) تاريخ العرب في الاسلام: 48 - 49.
(14) القبرة: 144.
(15) كتاب الاصنام، ابو منذر هشام بن محمّد الكلبي: 6.
(16) نفس المصدر.
(17) نفس المصدر.
(18) الوثنية في الادب الجاهلي: 282 - 284 واسواق العرب في الجاهلية والاسلام، سعيد الافغاني: 249 - 250.
(19) البيان والتبيين، الجاحظ 95: 3.
(20) ديوان امية بن أبي الصلت: الدكتور عبد الحفيظ السطلي: 518.
(21) في طريق الميثيولوجيا عند العرب، محمّد سليم الحوت: 150.
(22) معجم البلدان 117:4.
(23) Encyc lopaedia of islam vol, 3. P. 32
(24) الوثنية في الادب العربي: 287.
(25) نفس المصدر: 289.
(26) السيرة النبوية لابن هشام 119: 1.
(27) صحيح البخاري 201: 4.
(28) اخبار مكة 154:2.
(29) الوثنية في الادب الجاهلي: 293.
(30) السيرة النبوية لابن هشام 120:1.
(31) المفضليات، الضّبي: 111.
(32) معجم الشعراء، المرزباني: 294.
(33) تاريخ العروس 486:3.
(34) كتاب الاصنام: 14.
(35) السيرة النبوية لابن هشام 199:1.
(36) المحبّر، ابن حبيب: 178.
(37) القاموس المحيط، مادة حمس.
(38) البقرة: 199.
(39) المحبّر: 180 والسيرة النبوية لابن هشام 202:1.
(40) البقرة: 189.
(41) الوثنية في الأدب الجاهلي: 304 - 305.
(42) السيرة النبوية لابن هشام 202:1.
(43) المحبّر: 180.
(44) الوثنية في الأدب الجاهلي: 308.
(45) المحبّر: 181.
(46) صحيح البخاري 170:2 - 175.
(47) الوثنية في الادب الجاهلي: 313، نقلاً عن اخبار مكة.
(48) نفس المصدر: 315.
(49) نفس المصدر: 319 و the life of muhammad, A. H. SIDDIGHI p. 31
(50) كتاب الاصنام: 7.
(51) يوسف: 106.
(52) اخبار مكة، الازرقي 75:1.
(53) تاريخ اليعقوبي 296:1.
(54) الانفال: 35.
(55) السيرة النبوية لابن هشام 202:1.
(56) الوثنية في الادب العربي 239 - 240.
(57) الاعراف: 30.
(58) خزانة الأدب، البغدادي 292:1.
(59) البقرة: 158.
المصادر
أخبار مكّة، الأزرقي (مكّة مكرّمة، الماجدية، 1352) .
أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، سعيد الأفغاني (دمشق، 1927) .
البيان والتّبيين، ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السّلام محمد هارون (بيروت، دار الفكر، 1410) .
تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن مرتضي الزّبيدي (بيروت، دار مكتبة الحياة، بدون تاريخ) .
تاريخ الجاهليّة، الدكتور عمر فرّوخ (بيروت، دار العلم للملايين، 1984) .
تاريخ العرب في الإسلام، الدكتور جواد عليّ (بيروت، دار الحداثة، 1984) .
تاريخ العرب قبل العروبة الصّريحة في جزيرة العرب، محمّد عَزّة دَرْوَزَة (صيدا، المكتبة العصرية للطّباعة والنّشر، 1376) .
تاريخ اليعقوبي، ابن واضح اليعقوبي (بيروت، دار العراق، 1900) . .
خزانة الأدب ولُبّ لُباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق وشرح، عبدالسّلام محمد هارون (القاهرة، مكتبة الخانجي، 1409) .
ديوان أمية بن أبي الصلّت، جمع وتحقيق ودراسة، الدكتور عبد الحفيظ السطلي (دمشق، مكتبة أطلس، 1977) .
السّيرة النّبوية، لإبن هشام، تحيق، مصطفي السقا، ابراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي ( القاهرة، البابي الحلبي، 1955) .
صحيح البخاري، محمّد بن إسماعيل (القاهرة، مطابع دار الشعب، 1378) .
في طريق الميثولوجيا عند العرب، محمود سليم الحوت (بيروت، دار النّهار للنشر، 1983) .
القاموس المحيط، الفيروز آبادي (بيروت، مؤسسة الرسالة، 1406) .
كتاب الأصنام، أبو منذر هشام بن محمّد الكلبي، تحقيق، أحمد زكي باشا (القاهرة، دار الكتب المصرية، 1924)
المُحَبَّر، أبو جعفر محمّد بن حبيب، تصحيح، الدكتورة إيلزه ليختن شتيتر (بيروت، دار الآفاق الجديدة، بدون تاريخ)
مُروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، تحقيق وتصحيح، شارل پلاّ (بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، 1965)
معجم البلدان، ياقوت الحَموي، تحقيق فريد عبد العزيز الجُندي (بيروت دار الكتب العلمية، 1410) .
معجم الشّعراء، المرزباني، أبو عبيدالله محمّد بن عمران، تحقيق، عبد الستار أحمد فراج (دمشق، مكتبة النوري، بدون تاريخ) .
المفضّليّات، المفضّل الضّبّي، تحقيق وشرح، أحمد محمد شاكر، عبد السلام هارون (القاهرة، دار المعارف، 1976) .
الوثنية في الأدب العربي، الدكتور عبد الغني زيتوني (دمشق، وزارة الثقافة 1987) .
Encyclopaedia of Islam) Leiden, E. j. Brill,1986 (
Encyclopaedia, of neligion and ethics by James Hasting) Edinburgh, T. & T. cIark, 1980 (
The life of Muhammad, AbdulHamid SiddiQui) Islamic Publication Limited Pakistan, 1981 (.