36وكانت مراسم الحلق والتقصير تتمّ بعد التلبيد، وحسبما أورد صاحب تاج العروس، فقد كان اليمنيون يضعون علي شعرهم الملبد الطحين أو مسحوق الحمص والسُّكر، ثمّ يلحقون، فيتساقط الطحين أو مسحوق الحمص فينتفع به الفقراء33.
ولا بُدّ من معرفة أنّ الحلق والتقصير لا يكونان في مني وحسب، بل وكما قال هشام الكلبي: " كانت الأوس والخزرج ومن يأخذ بأخذهم من عرب أهل يثرب وغيرها يحجّون، فيقفون مع الناس المواقف كلّها، ولا يحلقون رؤوسهم. فإذا نفروا أتوه [مَناة]. فحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا ولا يرون لحجّهم، تماماً إلاّ بذلك " 34.
الفوارق والامتيازات:
إذا تمعّنا في مراسم الحجّ الجاهلي من خلال التاريخ والأدب المدوّنين، وجدنا ثمّة فوارق ناشئة عن شعور بعض القبائل بالفضل علي سواها. وتتمثّل هذه الفوارق قبل كلّ شيء في طريقة أداء حجّ المشركين، الذي فقد طابعه الديني ووحدته، بسبب تأثير النزعة الاستعلائية للقبائل القوية.
وكان الحجاج في الجاهلية علي ثلاثة أقسام: 1- الحُمْس. 2- الحِلِّة. 3- الطُلْس.
1- الحُمْس: كان القرشيون يرون لأنفسهم الأفضلية علي سائر العرب، ولمجاورتهم مكّة كانوا يقولون: " نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظّم غيرها كما نعظّمها، نحن الحُمْس " 35.
يتبيّن من هذا المقطع أن امتياز الحُمْس كان مختصّاً بسكّان الحرم من قريش، فقد جاء في كتاب المحَبَّر أنّ الحُمْس يطلق علي " قريش كلّها، وخزاعة لنزولها مكّة، ومجاورتها قريشاً " 36.
وقد ذُكر وجهان في المعني اللغوي لكلمة الحُمْس، إذ ورد أنّ: " الحُمْس جَمع أحْمَس وحَمِسٍ، مِن حَمِسَ: أي، اشتد وصَلُبَ في الدين والقتال، وقيل: إنّهم لقبوا بذلك لالتجائهم بالحَمْسَاء، وهي الكعبة، لأنّ حَجَرَها أبيض إلي السواد " 37.
وما أوجده الحُمْس في الحجّ هو ترك الوقوف في عرفة والإفاضة منها إلي المزدلفة، فهم في الوقت الذي يقرّون فيه بهذه المناسك، يقولون: نحن أهل الحرم لا ينبغي لنا الخروج من الحرم وتعظيم غيره؛ وعندما يقف الحجاج في عرفة، يقفون هم عند أطراف الحرم ثمّ يذهبون ليلاً إلي المزدلفة.
وقد ظلّ هذا الأمر حتّي ظهور الاسلام، إذ ألغته الآية ثم أَفيضُوا من حَيْثُ أفاضَ النّاسُ. . . 38.
ومن جملة الأعمال التي كان علي قريش القيام بها رعاية للحُمْس هو أنهم: "لم يطبخوا إقطاً، ولم يدّخروا لبناً، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتي يعافه، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا، ولا يبتنون في حجّهم شعراً ولا براً ولا صوفاً ولا قطناً، ولا يأكلون لحماً، ولا يمسّون دُهناً، ولا يلبسون إلا جديداً، ولا يطوفون بالبيت إلاّ في حذائهم وثيابهم، ولا يمسّون المسجد بأقدامهم تعظيماً لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها. " 39.
وقد أشار القرآن إلي هذا الأمر، ونهي عنه في الآية وليس البر بأن تأتُوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقي، واتوا البيوت من أبوابها. . 40.
ومن تقاليد الحُمْس الأُخري قولهم، إنّه لا يليق بغير أهل الحرم أن يتناولوا طعام غير الحرم في الحرم، بل عليهم إذا جاءوا للحج أو العمرة أن يأكلوا من طعام أهل الحرم إمّا من خلال الضيافة أو الشراء 41.