29وأخيراً فان الحج بنظر الإمام (( بمستوي القرآن يستفيد منه الجميع، لكنّ المفكرين والخائضين غمراته والمتحسسين لآلام الأُمّة الإسلاميّة لو خاضوا لحج معارفه ولم يخشوا الاقتراب منه والغوص في أحكامه وسياساته الاجتماعية لاصطادوا من صدف هذا البحر كمية أعظم، من جواهر الهداية والرشد والحكمة والانعتاق، ولارتووا وإلي الأبد من زلال حكمته ومعرفته))14. صلي الله علي روحك وبدنك يا إمام، فهل هناك أجمل واشمل وأدق من هذه العبارات عن فلسفة الحج؟
يضيف الإمام: ((ولكن ما العمل؟ وإلامَ تشكو هذا الغم الكبير؟ فقد أصبح الحج كما القرآن مهجوراً)) .
((ليس حجاً هو الحج الخالي من الروح والحركة والقيام والبراءة والوحدة، والحج العاجز عن هدم صروح الكفر والشرك)) .
أيها الأعزاء، يمكنكم أن تزيلوا هذا الغم عن روح الإمام الطاهرة، صحيح انّه رحل عنّا، بيد أن رسالته تُثقل كواهلنا فرداً فرداً.
وقد لخّص الإمام الباقر (عليه السلام) جدّ إمامنا هذا الكلام في عبارة واحدة وقال: في تلك الأيام العصيبة التي كلكل فيها ظلّ السلطة الجائرة علي العالم الإسلاميّ: (( إنما امر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم))15.
يُريد الإمام الباقر (عليه السلام) أن يبين لنا من خلال استعماله لتعبير الأحجار أنّ الحج المجرد من الفلسفة الإبراهيمية للحج لا يعدو كونه طوافاً بالأحجار.
يقول الإمام الخميني: (( التكليف الإلهي للحجاج في هذه البرهة الزمنية أن ينكروا كلّ موضوع يُشم منه رائحة الاختلاف والوقيعة بين صفوف المسلمين. ويعتبروا البراءة من الكفار وقادتهم واجباً من واجباتهم في المواقف الكريمة، ليكون حجّهم حجّاً ابراهيمياً وحجّاً محمدياً، وإلاّ سيصدق عليهم القول المعروف: ما اكثر الضجيج، وأقل الحجيج!))16.
كان هذا جانباً من رؤي إمام الامة وهو يتناول القضايا التي تخص فلسفة الحج وأُسس الحج الإبراهيمي، وعلي قاعدة هذه الفلسفة والأُسس يختلف محتوي الحج بدوره، كما يختلف الحجاج والقائمون علي شؤون الحج.
وقبل أن أختم هذا الحديث، أتطرق باختصار إلي محتوي الحج الذي يختلف في الحج الابراهيمي عن غير الإبراهيمي في كلّ مناسكه من التلبية إلي الرمي، إذ يري الامام أنّ كلّ أعمال الحج وحركاته وسكناته تنطوي علي محتوي حيوي تربوي محرك خاص، وحينما يقول الحاج: (( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. . .)) لا يكون قوله صادقاً وحقيقياً إلاّ حينما يصغي من أعماقه لنداء الحق ويستجيب لدعوة الله تعالي.
فالمسألة هنا مسألة الحضور في المحضر، ولا يستطيع أن يقول لبيك إلاّ من يحس بهذا الحضور، فإنكم وأنتم في غرفة مغلقة الأبواب لا يوجد فيها غيركم لا تقولون ((نعم)) ، إنّما تتفوّهون بهذه الكلمة حينما يوجد من يناديكم، فتشهدون وتسمعون صوته ودعوته، فالمسألة هي مسألة الحضور في المحضر ومشاهدة جمال المحبوب، وكأن الملبي في هذا المحضر قد خرج عن حالته الطبيعية. وتخلي عن ذاته.
إلهي، هل لنا أن ندرك ولو للحظة واحدة المعني الحقيقي للحج والمعني الحقيقي للإحرام ومفهوم التلبية؟