158فالكعبة تقوم حياة الناس، وتقوم حياة الناس بها، وعند الإفاضة يأمر الله - تعالي - عباده أن لا ينفرد بعضهم عن بعض في الإِفاضة، وإنما يفيض كلُّ منهم حيث أفاض الناس ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله (15) .
إذاً حضور الناس حول البيت وتواجدهم في الموسم، وانصهار الفرد داخل البيت والحرم في الناس شييء أساس في الحج، في طريق حركة الانسان إلي الله تعالي.
ونتساءل بعد ذلك، لماذا؟
وهوسؤال مهم يرتبط بسر من أسرار هذا الدين، فإن هذا الدين يحرك الانسان إلي الله - تعالي - ولكن من خلال الحضور في وسط الناس. فالحج حركة إلي الله، ولكن من خلال الانصهار في الناس، والصلاة معراج كل مؤمن، ولكن من خلال الجماعة، وحتي الاعتكاف الذي هو نحو من الاعتزال عن الناس يتم في المسجد الحرام ومسجد النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والمسجد الجامع في الكوفة، والمسجد الجامع في أي بلد، وليس في أي مسجد معزول متروك، فنتساءل مرة أخري لماذا لا تتم حركة الانسان إلي الله في الحج إلا من خلال الانصهار في الناس ومن خلال الحضور في وسط الناس؟ .
والجواب:
إن من غير الممكن أن يتجاوز الإِنسان الأنا في عزلة من الناس، وهو شرط أساس في الحركة إلي الله تعالي.
والانسان قد يتصور إذا اعتزل الناس، وابتعد عن الحياة الاجتماعية، يتحرر من الأنا والهوي والشهوات والرغبات، ولكنه يخطيء كثيراً، فإن نزعات الأنانية تبقي مطوية في خبايا نفسه، وهو غير شاعر بها، فإذا دخل الحياة الاجتماعية واحتكَّ بالناس، برزت هذه النزعات المخبوءة، علي السطح الظاهر من شخصيته، ولكن يمكن اجتثاث هذه النزعات والقضاء عليها إلا في وسط الحياة الاجتماعية.
إن هذه النزعات لا يمكن استئصالها إلا من خلال صراع مرير مع النفس في وسط الحياة الاجتماعية، ولا شك أن هذه النزعات، تختفي في حياة العزلة والرهبانية، إلا أنها تبقي كامنة ومختفية في النفس، فإذا صادفت فرصة مناسبة وجواً مناسباً تبرز مرة واحدة.
ولذلك لا بدّ من هذا الوسط الاجتماعي و الحياة الاجتماعية، والحضور في وسط المغريات والمثيرات ليستطيع الإِنسان أن يتجاوز الأنا بصورة كاملة.
وحقيقة أخري لا تقل أهمية عن الأولي: أنّ حركة الانسان إلي الله - تعالي - حركة شاقة عسيرة وصبعة، ولا يستطيع الإِنسان أن يطوي هذا الطريق وحده، فإذا حضر نفسه في الجماعة المؤمنة، وانصهر في وسط الأمة هان عليه السير، واستطاع أن يطوي معهم هذا الطريق بكفاءة وجدارة ويسر.