153فالميقات نقطة تحول وانقلاب في حياة الإِنسان، وأهم ما في هذا الانقلاب هو إضعاف الأنا والذات، وخصال وخصائص في حياة الإِنسان. فإذا تجرد عن ذلك كان موءَهلاً للدخول في رحاب ضيافة الله في الحج.
ومن عجب أن المذاهب الفكرية المادية تؤكد عكس ذلك تعزيز الأنا وتثبيت واعتماد عنصر الاعتداد بالنفس، وتنمية حالة الغرور والعجب. بخلاف الإِسلام الذي يبني منهجه التربوي علي أصل مكافحة الأنا وإضعافها وتحجيمها، وتحويل الإِنسان من محور الأنا، إلي محور حاكمية الله تعالي وسلطانه في حياته، ويدعو الإِنسان إلي التحلل من هذا المحور والارتباط بالمحور الرباني والانصهار فيه قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (2) .
2- الانصهار في الجماعة:
فإذا تجرد الإِنسان عن الأنا وانسلخ عن ذاته وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشري كبير، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يكاد يفرق بينهم شيء، يتحرك ضمن موج بشري كبير هادر، ينطلق من الميقات إلي الكعبة، كما تصب الأنهر في البحر من كل ميقات من هذه المواقيت المعروفة، التي وقّتها رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ، تجري أنهر كثيرة من الناس تصب في الحرم حول الكعبة، فتتجمع هذه الأنهر حول البيت الذي رفع قواعده إبراهيم ومعه ابنه اسماعيل (عليهما السلام) وفي هذا التيار البشري العظيم يتضاءل عنده الإِحساس بالأنا، حتي لا تكاد تشعر به حواسه ومشاعره، فلا تري في المطاف أفراداً يتحركون، وإنما تري كتلة بشرية واحدة من الناس تطوف حول البيت العتيق.
ولو أن الحاج الذي تجرد في الميقات عن الأنا، لم يكن يصب في المطاف في الجماعة المؤمنة، لكان يضيع ويفقد مقومات وجوده وشخصيته، ولكنه لا يكاد يتجرد عن الأنا ومعالمه وحدوده حتي يصب في الجماعة الكبيرة، كما تصب قطرات الماء في النهر الكبير، ويعود في المطاف إلي لون جديد من الحياة، وإلي حياة جديدة لم يألفها من قبل بهذه القوة والفاعلية، ولم ينذوقها بهذه الصورة تموت فيه الأنا، ويبعث الله في نفسه الإحساس بالجماعة، وينتقل إلي طور جديد من الحياة أهم خصائصه غياب الفردية، وحضور الجماعة؛ ويتكرس هذا الإحساس لدي الانسان في المطاف وفي السعي، وفي الموقف في عرفات، وفي الافاضة إلي المزدلفة، وفي المزدلفة، وفي مني، وفي العودة إلي الطواف والسعي يتضاءل لدي الانسان المسلم الإحساس بالأنا، ويتأكد لديه الاحساس بالجماعة المسلمة، وبأنه عضو من جسم واحد، وليس فرداً من مجموعة انسانية، وبأن هذه الأمة كيان واحد ومصير واحد وما يصيبها من خير وشر يصيب الجميع، وبأنه وحده لا يستطيع أن يتحرك إلي الله علي خطي إبراهيم (عليه السلام) ، إلا أن يذوب في هذا الحشد البشري الكبير المتجه إلي الله.