54
«لا يزال بنيانُهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلّاأن تقطّع قلوبهم واللّٰه عليم حكيم»
.
تحمل هذه الآية مشهداً آخر راح التعبير القرآني يرسمه في نفوس بُناته الأشرار، وبناة كل مساجد الضرار.
لقد انهار الجرف المنهار. . . انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه، انهار به في نار جهنم وبئس القرار! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته. بقي فيها «ريبة» وشكاً وقلقاً وحيرة. وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر. إلّاأن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور!
وإن صورة البناء المنهار - كما يقول صاحب تفسير في ظلال القرآن - هي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار. . . تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية وهما تتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان. فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار.
ثم يقول سيد قطب: وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني، في مثل هذا التناسق؛ بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء 1.
فيما ذكر القرطبي في أحكامه في قوله تعالى:
«لا يزال بنيانهم الذي بنوا»
:
يعنى مسجد الضرار.
«ريبة»
أي شكاً في قلوبهم ونفاقاً؛ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك.
وقال النابغة:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً
وليس وراء اللّٰه للمرء مَذهَبُ
وقال الكلبي: حسرة وندامة؛ لأنهم ندموا على بنيانه.
وقال السُّدّي وحبيب والمبرّد: «ريبة» أي حزازة وغيظاً أو أن تتصدع قلوبهم كقوله:
«لقطعنا منه الوتين»
لأنّ الحياة تنقطع بانقطاع الوتين، قاله الضحاك وقتادة ومجاهد، وقال سفيان: إلّاأن يتوبوا، وعكرمة: إلّاأن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبداللّٰه بن مسعود يقرؤونها: ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم، وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم «إلى أن تقطع» كل الغاية، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا 1، فالبناء الذي بنوه كان وظلّ
شكاً في قلوب مؤسسيه ومخططيه فيما كان من إظهار إسلامهم وثباتاً على النفاق، وبقي حزازةً كما يقول بعض المفسّرين، وحسرة كما يقول بعض آخر، في قلوب أصحابه يترددون فيها.
هذا وأنّ الرازي يذهب إلى أنّ بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً لريبة.
وفي كونه سبباً للريبة ذكر الرازي وجوهاً:
الأول:
إنّ المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى الله عليه و آله بتخريبه، ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.
الثاني:
إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنّه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ماهم فيه، أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟
الثالث:
إنّهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه، بقوا شاكين مرتابين في أنّه لأيسبب أمر بتخريبه؟
الرابع:
بقوا شاكين مرتابين في أنّ اللّٰه تعالى هل يغفر تلك المعصية؟ أعني