204كما لا يمكن للمسلمين أن يروا في المجتمع العباسي وقبله الأموي نموذجاً متقدّماً علىٰ نموذج دولة المدينة التي أسسها رسول اللّٰه، لا لسبب إلّالأنّ هذين المجتمعين متقدّمان مادياً وتقنياً بما لا يقاس مع مجتمع المدينة. فالمسلمون يرون في دولة الرسول الكريم نموذج القياس الذي تقرأ علىٰ أساسه التجارب اللاحقة وبغض النظر عن مقدار القوّة التي تملكها أيّ منهما.
هنا تبقىٰ مقاييس العدل والتوحيد والتقوىٰ، هي العنصر الثابت في قراءة طبيعة انشدادتها. طبعاً هذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّ الإسلام يطرح تناقضاً مبدئياً وعلى الدوام مع المقاييس الأخرىٰ، بل جلّ ما في الأمر أنّه ينظر إلىٰ ميزان التوحيد علىٰ أنّه المحور الناظم والمهيمن والمتحكم بموازين القوّة التي تقرأ علىٰ قاعدة خطّ التوحيد والعدل. فهي إمّا متواصلة معه أو مختلفة عنه أو مناقضة له. وبذلك يمكننا أن نفهم لماذا ينظر المسلمون إلىٰ تجربة المدينة علىٰ أنّها مقياس قراءة التجارب اللاحقة لها باعتبارها متقدّمة بمقياس العدل والتوحيد رغم كونها مختلفة بمقاييس المدنية والقوّة الماديّة؟
وبذلك يكون الإسلام قد قدّم تصوراً لا يغدر بأيّ حال من الأحوال بأفراد المسلمين أو بكتاب الأمّة الإسلامية أو بعالم المستضعفين على المستوى العالمي.
لهذه الأسباب نقول: إنّ الإسلام لا ينفي ما قبله وبالتالي لا ينفي ما دونه، بل يخلق عند أتباعه رؤية ومنهاجاً في التعامل مع الوقائع والأحداث تسمح لهم بعمليّة فرز التجربة التوحيديّة عن التجربة الوثنية. وتمثل استيعاب المسلك التوحيدي ونبذ المسلك الوثني.
ممّا يبرر هذا النهج وهذه الرؤية ما كان عليه الحجّ عشية الدعوة، وكيف تعامل معه الإسلام. فمن ذلك أنَّ قريشاً لم يكونوا يدخلون عرفات مع الحجيج، بل يقفون في الحرم، ويقولون: نحن أهل اللّٰه في بلدته وقطان بيته، ويقولون: نحن الحمس، وما إلىٰ ذلك إلّاليتميزوا عن سائر الناس، ويحافظوا علىٰ مركزهم