47من الخلفاء أزهد منه في لذّة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير المؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول: «لا أحبّ أن يدخل بطني ما لا أعلم» . . قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أميّة التي تبغض عليّاً وتخلق له السيّئات وتُخفي ما توافر له من الحسنات:
«أزهد الناس في الدنيا عليّ بن أبي طالب» . وقال سفيان: «إنّ عليّاً لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة» وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثاراً للخصاص التي يسكنها الفقراء. وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام. وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: «دخلت علىٰ عليّ عليه السلام فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة. فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول اللّٰه يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا - وأشار إلى ثيابه - فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به» . .
. . . هذه صفات تنتظم في نسق موصول: رجل شجاع لأنّه قوي، وصادق لأنّه شجاع، وزاهد مستقيم لأنّه صادق، ومثار للخلاف؛ لأنّ الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أنّ الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المُثلىٰ، فلم يختلفوا علىٰ شيء منها إلّاالذي اصطدم بالمطامع. . .
عبد الفتاح عبد المقصود:
أجل لقد واجه أبو طالب دنياه فقيراً، ومات عبد المطّلب عنه وهو بعد في نحو من السن لم يكن كدحه قد أفاء عليه من الخير ما يشتهيه. ولم يورثه أيضاً سيادة القوم لأنّه أوصى لآخر من بنيه هو الزبير. فلئن أقبلت الدنيا على هذا الفقير فحبته بمكرمة هي آية المكرمات فقد كان هذا من القدر غاية المرتجى عند ذي رجاء. . .