184ونحن إذا نظرنا إلى الحجّ في معناه ومبتغاه نجد أن هدفه تصفية النفوس وتزكيتها من أدران الخطيئة والذنوب، وذلك بوفادتها إلى بيت اللّٰه الذي يغفر الذنوب، واستضافتها في داره، وطوافها حول كعبته، كدلالة على خلوصها من قيود الشيطان وسلطته، وارتباطها الوحيد بعمود الإسلام وقبلته.
لكن طواف المسلمين في جموعهم المحتشدة حول الكعبة يعطي - إضافةً لذلك - المعنى التوحيدي للمجتمع الإسلامي، فهم في طوافهم حول مركز واحد مع اختلاف ألوانهم وأجناسهم، يشبهون نجوم السماء التي انتظمت في مجرة واحدة هي مجرة الإسلام. أو إنهم كالإلكترونات في الذرة يتشابهون في تكوينهم وطبيعتهم ولا يختلفون إلّا بمقدار قربهم وبعدهم عن النواة. وتتجسم معاني الإسلام الحقيقية في هذا اللقاء الفريد، وقد خلع الجميع زينة الدنيا ليتحلوا بزينة الدين.
ولا فرق بينهم في موقفهم هذا بين أبيضهم وأسودهم ولا بين فقيرهم وغنيهم ولا بين رئيسهم ومرؤوسهم ولا بين عربيهم وأعجميهم.
يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: « لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لحر على عبد، إلّابالتقوى» .
وإذا كان الإسلام حريصاً كل هذا الحرص على تنقية نفس الفرد المسلم في فريضة الحج مما علق بها من أرجاس وأدران، فما أحراه أن يهدف في هذه الفريضة إلى تنقية المجتمع الإسلامي مما يعانيه من أمراض وأسقام وتخليصه مما يعتوره من محن وأخطار.
لذلك كان الحجُّ أنجح فرصة لاجتماع المسلمين على طاولة واحدة، ومدارستهم لمشاكل المسلمين ووضعهم الخطط القويمة لدفع الأخطار المحيقة بهم.
فيكون الحج عبارة عن لقاء أخوي في كنف اللّٰه وعلى مائدة اللّٰه لدراسة شؤون أمة اللّٰه.
يقول سبحانه في سورة الحج:
« وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم. . .» 1.
وهل أعظم منفعة للمسلمين من أن يتدارسوا ما ينفعهم وما يضرهم، فيعملون على ما ينفعهم ويدرَءُون عنهم ما يضرهم.
ونحن لسنا مبتدعين في هذا المعنى بل متمثلين بأعمال النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسيرته. فلقد كان صلى الله عليه و آله و سلم يتخذ من الحج منبراً لتوجيه المسلمين وإرشادهم بما يحفظ كيانهم وسلامتهم. ومن أبرز ذلك خطبته المشهورة في حجة الوداع التي حذّر فيها المسلمين من بعض الأُمور التي تضعفهم وتزعزع كيانهم، ومنها أن لا يقتتلوا فيما بينهم، وأن لا يثيروا النعرات القبلية التي كانت بينهم كالمطالبة بالثأر، يقول صلى الله عليه و آله و سلم:
« أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت اللّهم اشهد. . من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن ربا الجاهلية موضوع. .
وإن دماء الجاهلية موضوعة. . وإن مآثر الجاهلية موضوعة. . أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس، ألا هل بلغت اللّهم اشهد. . ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني