164الشريف والمطاف خالياً من الناس، ولابدّ من أن صباه كان في عهد سليم الفاتح، ثم يقول: إن شيخاً معمراً من أهل مكة صدوقاً عنده أخبره بأنه «شهد الظباء تنزل من جبل أبي قبيس إلى الصفا وتدخل إلى المسجد، ثم تعود لخلو المسجد من الناس، وأنه كان يرى سوق المسعى وقت الضحى خالياً من الباعة، ويرى أهل القوافل يأتون باجمالهم من بجيلة فلا يجدون من يشتري منهم جميع ما جلبوه، وأن الأسعار كانت رخيصة جداً لقلة الناس وعزة الدراهم» انتهى ما يقوله القطبي عن شيخه المعمر، ولا أستبعد أن يكون المعمر عاش في أواخر عهد الشراكسة، ثم يقول القطبي:
أما الآن فالناس كثيرون والرزق واسع.
ثامناً: النواحي العمرانية في العهد العثماني الثاني:
واتسع العمران في مكة في هذا العهد، وتأسس أول مجلس للبلدية في عام 1326؛ ليقوم مقام المحتسب الذي كان يحكم السوق ويشرف على تنظيم العمران.
واطرد بازدياد عدد السكان كنتيجة لمجاورة موظفي الأتراك وعائلاتهم، ومجاورة موظفي المصريين الذين تخلفوا في مكة بعد ترحيل جيش محمد علي منها، والذي نحسبه أن أطماع أوربا التي ترتبت على ضعف العثمانيين في هذا العهد كان له أثر في مضاعفة السكان، كذلك فقد شنّ الروس حروبهم في أجزاء من آسيا، وكذلك فعل الإنكليز وفعلت فرنسا، فاشتدّ الضغط على كثير من بلاد الإسلام، وزادت الفتن والحروب ففرّ كثيرٌ من بلاد الإسلام بدينهم، والقليل بدنياهم إلى مكّة والمدينة وجدة لبعد هذه البلاد من ضغط الأوربيين واستقلالها بأحكام الدين. وقد بدأ أثر ذلك في أكثر العائلات التي تسكن الحجاز اليوم، فإن أبرز من فيها ينحدر من أصل مصري أو تركي أو مغربي أو شامي أو صيني، ولما اشتدت الكروب في الهند والأفغان وجاوى اشتد تدفقهم على البلاد، واتخذ الجميع من أجزائها في مكة والمدينة وجدة مناطق خاصة سميت بأسمائهم، ففي مكة اليوم من آثار ذلك جبل الترك وجبل الهندي وحارة السليمانية 1، وزقاق المغاربة وزقاق البخارية، وفي المدينة وجدة كثير من هذه المسميات.
وشوهدت مكة في هذا العهد تنقسم باعتبار الاجناس إلى أقسام تشبه المستعمرات، فمنطقة تحتلها جاليات الترك، وثانية يحتلها أهل بنغالة والهند، وثالثة يحتلها أهالي غرب أفريقيا «التكارنة» وغيرها يحتلها الجاويون وأهل بخارى وأهل السند والشام واليمن وحضر موت، ونقلت هذه الجاليات معها إلى مكة عاداتها كاملة وتقاليدها وأخلاقها، وكثيراً من صناعاتها، وبذلك انتفعت مكة بهذا الخليط.
وعنى العثمانيون في هذا العهد ببعض الإصلاحات فأسس الوالي التركي (عثمان نوري) في مطلع القرن الرابع عشر الهجري داراً للحكومة والبوليس أمام المسجد، وفي أجياد التي سمّاها (الحميدية) أسس نقطة للبوليس بجوار الصفا وقد بقي الى أن هدم في توسعة الشوارع في عام 1370، وأنشأ داراً للصحة في أجياد كان مكانها نقطة عسكرية للمدفعية، وهي اليوم إدارة للصحة العامة ومستشفى كما أنشأ مطبعة للحكومة، وهي باقية إلى اليوم بعد أن نقلت إلى داخل أجياد بجوار مقر المالية، وأهداه الشريف الحسين بن علي داراً له بجوار باب الوداع ليتخذه إدارة للبريد، وقد ظل على ذلك إلى عهد طويل من الحكم السعودي الثاني، ثم نقل البريد منه وجعل مقراً لإدارة الأسعاف ثم أزيل في توسعة المسجد.