33والتصوّر الثالث هو التصوّر الذي يعلّمنا القرآن، يثبّت قانون العلّية، ثمّ يعلن أنّ هذا الكون كلّه والوجود كلّه مسخّر لأمره، وهو الخالق الحاكم المهيمن على الكون كلّه يرزق من يشاء، بما يشاء، كيف يشاء، وينصر مَن يشاء، بما يشاء.
وسعي الإنسان في هذا الكون إلى أسباب الرزق ينبغي أن يكون من هذا المنطلق، وبهذه الرؤية التوحيديّة.
ولا ينبغي أن تحجبه الأسباب عن المسبّب الأوّل والمبدء الأوّل الحاكم على الكون والوجود كله.
وحجاب الأسباب حجاب كثيف، يُعمي الإنسان، ويسلبه البصر والبصيرة، فيرى الإنسان الأسباب ولا يرى يد الله تعالى من وراء الأسباب وفوقها ومعها.
وهذا هو شرط (التوحيد) في (السعي) ، وقد تحدّثنا عنه، ولا نريد أن نعيد الحديث عن هذا الشرط.
وما نريد أن نقوله هنا هو: إنّ هذه الرؤية التوحيديّة لعلاقة الكون بالله تعالى، وحاكميّة الله المطلقة على هذا الكون، يدعو الإنسان أن يكون ذاكراً لله تعالى في كلّ مراحل سعيه، وكلّ أنماط سعيه، يطلب من الله ما يشاء، ويدعو الله تعالى فيما يريد، ولا يشغله الكدح في السوق من أن يطلب الرزق من عند الله، ولا يشغله السعي إلى الأسباب المادّية الميدانيّة للنصر في المعركة من أن يطلب النصر من عند الله.
وهذا هو قوله تعالى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإنّ تقديم المفعول (إيّاك) على الفعل (نستعين) يفيد الحصر، ومعنى ذلك أنّ على الإنسان أن لا يستعين في سعيه بغير الله، وكلّ استعانة بغير الله فهي من الشرك الذي يشجبه القرآن الكريم.
وعليه يبقى الإنسان ذاكراً لله تعالى، في كلّ سعيه، يدعوه عزّ شأنه للتوفيق والتأييد والرزق، ولا يشغله شيءٌ من هذه الأسباب عن ذكر الله تعالى ودعائه وسؤاله واللجوء إليه عزَّ شأنه، في كلّ مراحل السعي ومنعطفاته.
4- التقوى والسعي
الكلمة الأخيرة في ضوابط السعي (التقوى) فإنّ الله تعالى إنّما يتقبّل من المتّقين. . وأيّ سعي لا يأخذ فيه صاحبه بضوابط التقوى لا يتقبّله الله.
وكما لا يتقبّل الله من السعي ما لا يخلص فيه صاحبه لله كذلك لا يتقبّل الله سعياً لا يأخذ فيه صاحبه بضوابط التقوى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِن الْمُتَّقِينَ (69) ، وأيّ سعي لا تضبطه التقوى فلا قيمة له عند الله.
والتقوى هي التي تُنجح سعي الإنسان، وتفتح له في الأزمات الصعبة مخرجاً من الضيق وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ (70) .
والتقوى لا تضيق على الإنسان مساحة سعيه، ففي ما أحلَّ الله تعالى رحمة وبركة ورزق، وفيما حرّمه الله تعالى شقاء وحرمان للإنسان.
فلابدّ أن يجري الإنسان في سعيه في هذه الدُّنيا طِبقاً لحدود الله تعالى في الحلال والحرام، ولا يتجاوز حدّاً من حدود الله.
الإنسان بين السعي والكلم الطيّب
يقول تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (71) ، هذا هو كلّ ما يملكه الإنسان في هذه الدُّنيا، ويأخذه معه إلى لقاء الله.
1 - السعي وهو العمل الصالح، حسب الآية العاشرة من سورة فاطر.
2 - والكلم الطيّب، وهي النيّة والحالات القلبيّة الكامنة وراء العمل الصالح من الخشوع والتبتّل، والتقوى والحبّ والبغض والذِّكر (القلبي) ، والتوحيد والإخلاص. . .