104وأما البركات المعنوية التي تتحلى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من اجتماع الحجيج فيها، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة، وما يصحبه من جاذبية ربانية تحيي الأنفس والقلوب وخاصة في موسم الحج فمما لا يخفى على أحد.
ولو أن المسلمين لم يقصروا اهتمامهم في موسم الحج على الجانب الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها، والتفتوا إلى فلسفتها، لاتضحت حينذاك البركات المعنوية، وتجلت للعيان أكثر فأكثر، هذا من الناحية المعنوية.
وأما من الناحية المادية، فإن هذه المدينة رغم أنها أقيمت في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا عشب، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي بقيت على طول التاريخ واحدة من أكثر المدن عمراناً وحركة، وكانت دائماً من المناطق المؤهلة خير تأهيل للحياة، بل وللتجارة أيضاً.
أجل، إن الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كلّ فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم، وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحجّ التي لم تزل تؤدى بجلال عظيم منذ عهد الخليل(ع) .
ولقد كانت هذه البنية معظمة أبداً حتّى من قبل العرب الجاهليين، فهم كانوا يحجون إليها وإن مزجوا مناسك الحجّ ببعض خرافاتهم وعقائدهم الباطلة، إلاَّ أنهم ظلوا أوفياء لهذه المناسك على أنها دين إبراهيم، وقد كان لهذه المناسك والمراسم الناقصة، والخليطة أحياناً بالخرافات الجاهلية، أثرها في سلوكهم، حيث كانوا يرتدعون بسببها عن بعض المفاسد بعض الوقت، وهكذا كانت الكعبة سبباً للهداية حتّى للوثنيين...
إن لهذا البيت من الجواذب المعنوية ما لا يستطيع أي أحد أن يقاومها ويصمد أمام تأثيرها الأخّاذ.
إن في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده، وفي تلك النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب . وإن بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لَمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي.
الكعبة والروايات
هذه مجموعة من الروايات التي تلقي بظلالها على هذا المكان المبارك رأينا ذكرها كما هي من مصادرها الحديثية :
1- روي أنه إنما سميت كعبة لأنها مربعة، وصارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع، وصار البيت المعمور مربعاً لأنه بحذاء العرش وهو مربع، وصار العرش مربعاً، لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر .
2- ووضع البيت في وسط الأرض لأنه الموضع الذي من تحته دحيت الأرض، وليكون الفرض لأهل المشرق والمغرب في ذلك سواء .
3- وفي الدر المنثور، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب(ع) ، في قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ )، قال: كانت البيوت قبله ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.
وعن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين(ع) ، في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ ...) فقال له رجل: أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة . وأول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.
4- عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي(ع) فقال: ألا تحدِثني عن البيت: أهو أول بيت وضع في الأرض؟
قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً . وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت.
5- عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى عليّ(ع) فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟
فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً.
6- وفي رواية عن أبي عبدالله الصادق(ع) قال: موضع البيت بكة، والقرية مكة.
وفي العلل، عن الصادق(ع) : موضع البيت بكة، والقرية مكة.
وفيه، أيضاً عنه(ع) : إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها.
أقول: يعني يزدحمون.
وفيه، عن الباقر(ع) :
إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء، والمرأة تصلي بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنما يكره ذلك في سائر البلدان.