103وقد اختلفت الأقوال بين كونه أول بيت وضع للناس، يعبد الله فيه مباركاً وهدى للعالمين ببكة وبين أنه هو أول بيت وضع في الأرض، وقيل: قبلها بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة . وبين أنه خلق قبل جميع الأرضين، أو عند خلق السماء والأرض، ثم دحِيت الأرضون من تحته . أو هو موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض.
فقد روي عن علي بن الحسين(ع) : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدره، فبنوا واسمه الضراح، وأمر مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، وكانوا يحجّونه، فلما حجه آدم، قالت الملائكة: بر حجك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام، ويرُوى عن ابن عباس أنه قال: أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض، وقيل: هو أول بيت مبارك وضع في الأرض هدى للناس، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب(ع) ، قال الضحاك: أول بيت وضع فيه البركة . وقيل: أول بيت وضع للناس يحج إليه . وقيل: أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي: معناه: أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ ) يعني المساجد.
وبعد هذه الإشارات المختصرة نقرأ ما يقوله كل من صاحب الميزان وتفسير الأمثل بخصوص أنه أول بيت وكونه مباركاً وهدى للعالمين.
السيد الطباطبائي في ميزانه
و المستفاد من الآية إن أول بيت أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة: أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة، وهل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالاً باطلاً؟
و الجواب: إن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة، وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم، وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.
قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ) إلى آخر الآية، البيت معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك، والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدى للعالمين وغير ذلك، ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك، وأما كونه أول بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.
و المراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها، وربما قيل: إن بكة هي مكة، وأنه من تبديل الميم باء كما في قولهم: لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم، وقيل: المسجد، وقيل: المطاف.
و المباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله: (هُديً لِلْعالَمِينَ) أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم:
(رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا الصَّلاٰةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) 1.
وكونه هدى هو إراءته للناس سعادة آخرتهم، وإيصاله إياهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين.. .
فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين.
على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف الأمة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.
ومن هنا يظهر أولاً: أنه هدى إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية، فالهداية مطلقة.
وثانياً: أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين؛ وذلك لما فيه من سعة الهداية.
الشيخ المكارم الشيرازي في أمثله
«المبارك» يعني كثير الخير والبركة، وإنما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيراً، سواء الخير المادي، أم المعنوي.