89وكم كانت فرحة مصعب عظيمة وهو يتلقى أمر الرسول(ص):
اذهب يا مصعب على بركة الله...
فراح يردد كلمات الشكر لله تعالى ويتمتم بها وهو يرى ما أولاه الرسول(ص) من الثقة العالية به، ومن فوره راح يغذ السير مع من أسلم من يثرب لينطلق بأشرف الأعمال وأحسنها
وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعٰا إِلَى اللّٰهِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً وَ قٰالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولسانه يردد:
قٰالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي .
وحتى نعرف عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه وخطورتها أنه دخلها ولا يوجد في يثرب إلا اثنا عشر مسلماً.. وأجواؤها كانت مشحونة بالعداوة التأريخية المريرة بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتين خاضتا معارك دامية مليئة بالأحقاد والثارات، وخصوصاً إذا عرفنا أن في يثرب عدواً متربصاً بهم ويسوؤه وفاقهما ووحدتهما ويؤلمه اجتماعهما واتفاقهما وهو يواصل إذكاء تلك العداوات بكل ما أوتي من قوة ومال وخبث.. إنهم يهود بني قريظة وبني النضير..
لقد كان هذا الشاب رضوان الله تعالى عليه يقدر المسؤولية التي أنيطت به، ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامه خلال سنة حتى يوافي رسول الله(ص) في الموسم القادم ومعه الكثير من الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام ، فعليه إذاً أن يجتهد في الدعوة وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجاً..
وأما أسعد بن زرارة الذي نزل عنده مصعب فقد كان من أوائل من أسلم من الأنصار، ولأنه توفي بعد هجرة الرسول(ص) بقليل، فإننا لا نجد له ذكراً كثيراً في كتب السيرة ، وأخذ كل من مصعب وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يبثان الإسلام بين الأوس والخزرج بجد وحماس حتى صار يدعى مصعباً بالقارئ والمقرئ.
وهو ما حصل بالفعل؛ فقد طفق هذا الصحابي الشاب منذ أن وطأت قدماه تراب يثرب يوصل ليله بنهاره ولا يعرف الهدوء والاستقرار حتى استطاع - بتسديد من الله تعالى ودعم من رسوله(ص) وخلال سنة - أن يجعل شبابها ورجالها ونساءها ينعمون بأجواء إسلامية قرآنية وحقاً ما ذكروه عنه أنه:
«لم يزل يدعو للإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار الأوس والخزرج إلا وفيها رجال ونساء مسلمون». إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف ، وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وهو صيفي وكان شاعراً لهم وقائداً يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله(ص) إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق..
وفي رواية: إن هناك رجلاً واحداً، وهو الأصيرم تأخر إسلامه إلى يوم أحد 1.
لقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير رضي الله عنه أنه خير سفير للإسلام اعتمده الرسول الكريم(ص) لأهل يثرب، فقد قام بما عهد إليه من مهمة ومسؤولية خير قيام إذ استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيراً من أهل يثرب على الإسلام، حتى أن قبيلة من أكبر قبائل يثرب وهي قبيلة بني عبد الأشهل، قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ رضوان الله تعالى عليه ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة هذه القصة، التي جاء فيها:
إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن خالة أسعد بن زرارة فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم . وسعد بن معاذ وأسيد بن خضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه - فلما سمعا بذلك قال سعد بن معاذ لأسيد بن خضير : لا أبا لك!
انطلق إلى هذين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت ، كفيتك ذلك . هو ابن خالي ولا أجد عليه مقدماً.
فأخذ أسيد بن خضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكلمه . قال: وجاء أسيد فوقف عليهما متشمتاً، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة.
فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟
قال: أنصفت.
ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن .