88
قول النبي وعالوا في الموازين 1
لكن مصعب لم يبق طويلاً في هجرته إلى الحبشة، إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشاً قد أسلمت وكان الأمر غير ذلك.
قال ابن إسحاق : وبلغ أصحاب رسول الله(ص) الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم من ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً.. وسجل ابن هشام في سيرته العائدين من المهاجرين حتى وصل إلى من عاد من بني عبد الدار : ومن بني عبد الدار بن قصي : مصعب بن عمير بن هشام بن عبد مناف، وسويبط بن سعد بن حرملة 2.
وتمر الأيام العصيبة على المسلمين في مكة ويأتي عام الحزن العام الذي توفيت فيه خديجة أم المؤمنين زوجة رسول الله(ص) وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها.. ووفاة عمه أبي طالب وكان له عضداً وحرزاً في أمره ومنعة وناصراً على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين .. وينتهي عام الحزن هذا 3.
ولما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه(ص) راح رسول الله(ص) يعرض نفسه على قبائل العرب .. تأتي منهم في موسم الحج طلائع، وقد جاء من أهل يثرب سنة 11 من البعثة النبوية رهط والتقوا بالرسول(ص) عند العقبة ستة نفر من الخزرج وأسلموا على يديه وواعدوا رسول الله(ص) إبلاغ رسالته إلى قومهم .. وفعلاً ما إن عادوا إلى يثرب إلى قومهم حتى أفشوا الأمر، وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلاً اجتمع هؤلاء مع النبي(ص) عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وكانت بيعتهم كبيعة النساء خالية من البيعة على القتال ..
يقول ابن هشام : فبايعوا رسول الله(ص) على بيعة النساء [وقد ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن، قال : يُبٰايِعْنَكَ عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً فأراد ببيعة النساء أنهم لم يبايعوه على القتال . وكانت مبايعة النساء أنه يأخذ عليهن العهد والميثاق فإذا أقررن بألسنتهن، قال : قد بايعتكن].
عن عبادة بن الصلت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله(ص) على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر 4...
سفير الرسول والرسالة
لقد شاءت له السماء أن يكون من أولئك الذين شيّدوا أساس الإسلام ومجده وعزته ومنزلته في المدينة المنورة بلد الهجرة والنور والعطاء، بين أهليها من الأوس والخزرج وليجعل منهم دعاة إلى دين الله وأنصاراً لرسوله(ص)... وأن يكون في إيمانه وحركته وجهاده واستشهاده قدوة صالحة لأنه من أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّٰهُ فَبِهُدٰاهُمُ اقْتَدِهْ . وحقاً كان كما لقبه المسلمون «مصعب الخير».
يأتي دور الصحابي الشاب مصعب بن عمير بعد أن تمت البيعة وقد عرف بنودها وحفظها وانتهى الموسم، بعثه النبي(ص) مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّمهم والمسلمين في يثرب مفاهيم الإسلام وأحكامه، ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، لقد اختار رسول الله(ص) لهذه المهمة الشاقة مصعب بن عمير رضوان الله تعالى عليه، وهو فتى من شباب الإسلام من السابقين الأولين الصادقين المخلصين المتحمسين بوعي وحيوية وقدرة ...
قال ابن إسحاق في السيرة النبوية:
فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله(ص) معهم مصعب بن عمير... وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ في المدينة: مصعب . وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس، أبي أمامة.
ثم يواصل ابن إسحاق كلامه قائلاً: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.
وقال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة حرسها الله.
إذن قبل أن يهم المبايعون من سادات الأوس والخزرج ونقبائهم بالرجوع إلى مدينتهم يثرب طلبوا من الرسول(ص) أن يبعث معهم معلماً يعلمهم الإسلام وأحكامه ويدرسهم القرآن ويفقههم في الدين، وهذا دليل وعيهم وشوقهم لمعرفة هذا الدين الذي آمنوا به وتمسكهم والتزامهم بما عاهدوا الله تعالى عليه وبايعوا عليه رسوله(ص).
وكانوا يتوقعون أن يرسل(ص) معهم ما هم بحاجته من أصحابه المعلّمين إلا أنه(ص) اكتفى بواحد منهم ولم ينتدب لهذه الوظيفة إلا مصعباً المتدفق حيوية ونشاطاً وذكاء، المشع وجهه جمالاً وبهاء.. ليضطلع بمسؤولية كبيرة وجديدة..
اختاره الرسول أن يكون سفيره إلى يثرب، يفقه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ يثرب ويهيؤها ليوم هجرة النبي(ص) إليها ... إن رجاحة عقل مصعب وكريم خلقه وصبره ونشاطه وزهده جعله موضع تشريف رسول الله(ص) له، ليسجل بذلك أول مبعوث للنبوة والرسالة وأول سفير للإسلام..