10وآثارها على سيرتك المفعمة بأحداث عظام وأمور جسام ومواقف عظيمة ومبادرات كريمة. . .
ومع أنّي واكبتُ جميع أعداد المجلّة هذه محرّراً. . وسعيداً بها، إلّاأنّ تلك السعادة لم تغمر قلبي ولم أذق شربةً أنقع لغليلي من هذا العدد - علىٰ بساطته - الذي يعيش ذكراك ويتفيّأ ظلالك. . .
* * *
بدءاً نقول: لعلّ الحكمة - سيّدي - في إعلان هذا العام عاماً خاصاً، هي تجميع للجهود المحبّة والمتفانية فيك، وتذكيرٌ للغافلين، وفرصةٌ للمناوئين. . . وإلّا فإنّ من يقصد وجه اللّٰه تعالى الذي أحببتَه وآمنتَ به وآثرتَه وسكنتَ إليه، وأفنيتَ عمرك الشريف فيه مؤمناً مجاهداً. . . حتّى قضيتَ نحبك في سبيله، وفاضت روحك إليه، مضرّجاً بدمك في محراب عبادته، في بيتٍ من بيوت اللّٰه تعالى، في مسجد الكوفة، وقد انطلق صوتك، ودوّى صداه عالياً في جنبات المسجد وفي سمائه. . فُزتُ وربِّ الكعبة، فزتُ وربِّ الكعبة. .
نعم، إنّ من يقصد ذلك الوجه الكريم ويرجو لقاءه بقلب سليم ويأمل أجره وفضله ويخشى حسابه ويخاف عقابه، يجب أن تبقى ذكراك ماثلةً أمامه، حيّةً في سيرته، فاعلةً في حياته، شجرةً خضراء ينعم بظلالها الوارفة ويشمّ عطرها ويستنشق عبيرها، ويرتشف من معينها قيماً جميلةً ومعاني عظيمة ومفاهيم جليلة، وأن يقرأك إنساناً وإيماناً وتقوًى وزهداً وجهاداً وعلماً وأدباً وفكراً. .
إذن، أن يبقى كلّ منا يعيشك دائماً قدوةً صالحةً واُسوةً حسنةً، وهو الذي يجب أن نعوّد أنفسنا عليه ونتبنّاه في حياتنا الدينية والاجتماعية بكلّ مفاصلها. لا ذكرى فقط تمرّ مرور الكرام. .
ولعلّ الحكمة في أن يكون مولدك في جوف الكعبة؛ القبلة، لتكون قبلةً للأنام، للمؤمنين رعاةً كانوا أو رعيةً مهما بعدت بهم البقاع ونأى بهم الزمن، يستقبلونك مبادئ وقيماً ومثلاً عليا كلّما توجّهوا إليها في فرضٍ أو مستحبٍّ أو دعاءٍ. .
لذاك قبلة من صلّى لخالقه
غدا ومقصد من للحجّ يأتيه
حقّاً لتبقى بل ليبقى عليٌّ شاخصاً أمامنا بكلّ ما يحمله من قيم السماء ومبادئ الدين الحنيف، وبكلّ ما يتحلّى به من إيمانٍ ثابت وإسلام وثيق، وجهاد مرير وتضحيات جسام، ومن علمٍ غزير وأدب جميل وسيرة عطرة حسنة، تمنّاها كلّ مَن حولك والذين جاءوا من بعدهم. . فعصت عليهم جميعاً، ولم تجد غيرك إناءً صالحاً، وبوتقةً تصهرها، فتنتج عليّاً إسلاماً يتحرّك وقرآناً ناطقاً، وإيماناً حيّاً يجسِّد كلّ معاني السماء.
* * *
لقد كنت - سيّدي - بين محرابي الولادة والشهادة محراباً لا يدانيك أحدٌ أبداً، وكيف لا تكون كذلك وأنت أكثرهم جهاداً وأمضاهم عزيمةً وأشدّهم توثّباً حتّى قال فيك تلميذُك حبرُ الاُمّة عبداللّٰه بن عبّاس: ما رأيتُ محراباً مثله؟ !
كنت جريئاً على الموت مقتحماً لميادينه، لا تخشىٰ ولا تهاب أحداً بالغاً ما بلغ من القوّة والشجاعة والاقدام، بل لا تجد هيبة هولاء الأبطال من قلبك شيئاً.
فقد نزل عمرو بن ودّ المعروف بقوّته وصلابته وصولته وبأنّه يعدل ألف فارس، وقد لفّه الحديد من هامته إلىٰ أخمص قدمه، ينادي بصوت مخيف هل من مبارز؟ أين جنتكم التي زعمتم أنّكم داخلوها إن قتلتم؟ . . ولا مجيب إلّاصوتك «أنا له يا رسول اللّٰه» فوثبتَ إليه، وصوت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يلاحقك: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه» فإذا هو مجدّل بين يديك بضربة تعدل عبادة الثقلين، ولا ذت الأحزاب بالفرار.
وأنت في عبادتك الأواب المتبتّل الواله بربّه، الذي عبد اللّٰه كأنّه يراه، وأنت القائل: أفأعبد ما لا أرىٰ 1؟
وأنت القلب الطاهر المطمئن الذي لا يخفق إلّابحبّ اللّٰه وحبّ رسوله. . .
وأنت القِمّة السامقة في تسليمك وانقيادك إلى اللّٰه سبحانه وتعالىٰ، فكنت الإيمان كلّه، وكنت الغاية في الإخلاص والغاية في الصدق.
وأنت في فصاحتك الخطيب الأوّل الغنيّ ببدائع الخطابة وألوان البيان وضروب الحكمة وفنون الكلام.