192الإسلام.
وتطرق الفصل الثامن من الكتاب إلى موضوع السعي بين الصفا والمروة، وما ورد في التاريخ بشأن هذين الجبلين، والبداية والنهاية المفروضة للسعي بينهما والأحكام والحدود الخاصة بهما.
ورد في هذا الفصل 16 بحثاً و 17 حديثاً كلها مخصصة لوصف البناء الذي كان قد أُقيم فوق الفسحة الفاصلة بين الصفا والمروة، والدور التي كانت متّصلة به، وطواف أهل الجاهلية والأشعار والأقوال التي كانوا يردّدونها أثناء السعي، والأصنام التي كانت موضوعة على الصفا والمروة، والمسافة الفاصلة بينهما، إن لنصوص هذا الفصل أهمية خاصّة من الوجهة التاريخية؛ لأنها تعين على معرفة بعض آداب ومعتقدات العصر الجاهلي وأحد مظاهره العبادية المتمثّلة بالسعي بين الصفا والمروة.
ويُعَدّ الفصل التاسع (ج2، 246 - 385 و ج3، 1 - 149) من الفصول الطويلة في الكتاب ويحوز أهمية قصوىٰ بسبب ما يتضمنه من ترسيم لحدود الحرم، وكيفية تحريم الحرم ونصب العلائم الدّالة على تلك الحدود وتغييرها على مرّ التاريخ، ومن ثم ذكره لأسماء مكّة، والخلفاء الذين سكنوها والصحابة الذين توفّوا فيها. وقد ورد في هذا الفصل ذكر مجاورة مكّة وفضل الصبر على البلايا والمكاره التي تحفّ بمن يختار سكناها.
يحتل هذا الفصل مكانة هامّة بين فصول الكتاب، فهو يتحدث عن قيام عبد اللّٰه بن الزبير ومعاركه، وما جرىٰ فيها علىٰ أهل مكّة؛ ولهذا فهو مفيد من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية.
واختصّت الصفحات الأُخرىٰ في هذا الفصل لتبيان الحوادث الطبيعية والوقائع السياسيّة التي شهدتها مكّة، والآداب والسُنن التي تطبع ساكنيها. وفيه أيضاً أخبار مثيرة وجذّابة عن الحفلات ومجالس الأنس والشراب والطرب التي دأب الناس على إقامتها فيها.
ويضمّ هذا الفصل بين طيّاته أيضاً أخباراً عن مكّة وأهلها في نظر الآخرين، والأهمية والقداسة التي كانت توليها بقية المدن والأمصار والقبائل لأهل مكّة، والأشعار التي وصفوهم بها، وأخباراً أخرىٰ عن الزهاد والقُضاة والعلماء والعباد والأمراء الذين عاشوا فيها، والكيفية التي كان أهل مكّة يقرأون بها القرآن وآداب ختمه عندهم، والطريقة التي كانوا يلبّون بها حين وصولهم إلى « والضحى» عند قراءة القرآن.
وجاء في صفحات الكتاب الأخرىٰ ذكر جدّة وأحوالها وأخبارها، وفضيلة الموت فيها، وكذلك أشار إلى « البطحاء» و « الأبطح» وموقعها الدقيق في مكّة، وذكر من كانت أسماؤهم وكناهم على اسم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وكنيته من أهل مكة.
ينتهي هذا الفصل بذكر الخطب التي ألقيت في اجتماعات مكّة، كخطبة أبي ذر، وعتبة بن سفيان، والحجّاج بن يوسف، وداود بن علي بن عبد اللّٰه و. . . الخ وهي خطب تفضي بنا إلى معرفة الكثير من الأحوال السياسية والأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك.
أما الفصل العاشر (ج2، 157 - 208) فهو تحت عنوان « باب جامع من أخبار مكّة في الإسلام» ويختص بذكر الأخبار والمواضيع حول إدارة مكّة في الجاهلية والإسلام، وفيه عناوين فرعية نذكر فيما يلي بعضها على سبيل المثال وهي: ولاة مكّة من الذين ماتوا فيها، ولاة مكّة من قريش وسواها وبعض أعمالهم وسيرتهم، قضاة مكّة من قُرشيّ الطائف، وسكن قبيلة ثقيف فيها. . . الخ.
الفصل الحادي عشر (208 - 243) وهو فصل قصير إلّاأنه طريف وحريّ بأن يُقرأ، وقد جرىٰ فيه الحديث عن الأوائل في مكّة من أمثال: إنَّ أوّل من ضرب الدينار والدرهم هو آدم (3: 208) ، وإنَّ أوّل من اتّخذ للخطابة منبراً هو إبراهيم (3: 209) و. . . الخ. وقد كتب محقّق الكتاب عن هذا الفصل ما يلي:
يُعَدُّ هذا الفصل من الفصول الطريفة والمهمّة في كتاب الفاكهي، فقد بذل جُهداً واسعاً في جمعه وترتيبه، وهو ما يؤشر على سعة اطّلاعه ومراجعته لمختلف المصادر. فالفاكهي هو الوحيد من بين مؤرّخي مكّة الذي عالج هذا الموضوع، وقد نقل في هذا الفصل 62 حديثاً وخبراً 1.
الفصل الثاني عشر (243 - 259) وهو أيضاً فصل قصير تطرق فيه للأحكام الشرعية للبيع والإجارة وامتلاك البيوت في مكّة وبناء البيوت فيها. وتحدّث فيه أيضاً عمَّن يتمكّن من بناء دار هناك والسكن فيها، وعَمَّن لا يتمكن من الإقامة فيها، وجاء كل ذلك في 41 حديثاً ونصّاً.
الفصل الثالث عشر (ج3، 283 - 353) وهو من الفصول الطويلة والمهمة في هذا الكتاب، فهو يزوّدنا بمعلومات مهمّة ودقيقة عن القبائل والبطون التي سكنت مكّة، وعن الجوانب المتعلّقة بالحياة الاجتماعية والقبلية التي كانت سائدة في تلك الربوع آنذاك.
وجاء في هذا الفصل على ذكر حارات مكّة وأحيائها وأجواء الحياة القبلية فيها، وأسماء الدور والأحداث التاريخية التي شهدتها مكّة في ذلك الزمن، وكلّها مواضيع جذّابة وتستحق القراءة، وذكر فيه أوّل من قسّم الأراضي على القبائل وجعل لكلّ بطن محلّة خاصة بها، وفَصل بيوت كلّ قبيلة وحدودها، فهو قد ذكر على سبيل المثال بيوت أبناء عبد المطلب بشكل دقيق (ج3، 263 - 303) . وقد وردت في طيات الكتاب نصوص ومعلومات تاريخية جمّة منها الحوادث التي وقعت في هذه الأحياء والبيوت، وعقود البيع والشراء التي حصلت فيما بينهم، ومن تحالف مع هذه الأحياء والدور، والأمور التي تصدّىٰ لها وجوه القوم والشخصيات البارزة لتلك القبائل والبطون.
يُختتم الجزء الثالث بالفصل الرابع عشر (353 - 392) ، ويضمّ معلومات دقيقة عن حدود مكّة وتهامة، وحكم طرد المسلم من مكّة، وحكم القاتل الذي التجأ إلى الحرم، والأشجار التي يجوز قطعها في الحرم والاستفادة منها، وحكم الصيد في الحرم ومقدار كفّارته، والحيوانات التي يجوز قتلها في الحرم و. . . الخ.
وجاء في الفصل الخامس عشر (ج4، 5 - 96) ذكر الأماكن التي تُستحب فيها الصلاة، وهي بعض المساجد من أمثال: المسجد الموجود في «دار الأرقم» ، ومسجد في «عرفة» ، و «مسجد الكبش» ، و «مسجد البيعة» ، و «مسجد ذي طُوىٰ» ، ومسجد في «جبل النور» «جبل حراء» ، ومسجد قرب شعب أبي طالب و. . . الخ. وذكر فيه أيضاً مقبرة مكّة في زمن الجاهلية، ومقبرة المهاجرين، وآثار النبي والصحابة، واستعرض أيضاً جبال وبقاع مكّة.
وبمناسبة ذكر القبور، أورد روايات مهمّة بشأن زيارتها، من جملتها:
قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: « زوروا القبور فإنّها تذكركم الموت» 2.
وأشار في هذا الفصل أيضاً إلى وادي «محصّب» 3وحدوده والنصوص الواردة بشأنه، وأورد الإشارة هنا إلى أنّ «محصّب» أرض واقعة على مسير مكّة باتجاه منىٰ وهنالك اختلاف في تحديد حدودها، ويَعدُّ أهلُ السُنّة قيامَ الليل فيها بعد العودة من منىٰ، مستحباً.
يتولى الفصل السادس عشر (ج4، 96 - 128) الحديث عمّا كان في مكّة من آبار وعيون وبُرَك وأحواض في زمن الجاهلية والإسلام، وهو فصل يسترعي الاهتمام بسبب ما يحتويه من لمحات اقتصادية واجتماعية، وفيه إجابات مفصّلة عن الأسئلة المطروحة بشأن الأشخاص الذين فطروا تلك الآبار والعيون، وكيفية استثمار الناس لتلك الينابيع ؛ وما هي الدوافع والمقاصد التي كانت وراء حفر تلك الآبار؟ وما هي مكانة القبائل أو الأشخاص الذين كانوا يبادرون لمثل هذه الأعمال؟ وما هي أهميّة بئر زمزم بين كل تلك الآبار؟ وما هي الآبار التي تمّ حفرها، والينابيع التي اُستُثمرت، والعيون التي تدفقت بعد انبثاق الإسلام؟ وتجدر الإشارة إلى أن كل ذلك جاء منظوماً على هيئة الأشعار والقصص التي تحكي كيفية الاستفادة من تلك المصادر المائية، وهي مفيدة لمن أراد التعرّف على الآداب والرسوم والسنن التي كانت سائدة في العصر الجاهلي في محيط مكّة.
ركّز الفصل السابع عشر (ج4، 129 - 246) على ذكر الطرق والشوارع والوديان ومجاري السيل والأماكن التاريخية التي كانت قائمة في مكّة، والمداخل والمخارج والجبال المتصلة بالحرم، والأماكن التاريخية التي دارت فوقها الأحداث والوقائع المهمة.
وكما ذكرنا مراراً بأنّ الفاكهي لم يكتف بذكر الأماكن والأحداث، بل كان يبين كل ما يمت إلى ذلك الموضوع بصلة. فهو قد ذكر على سبيل المثال قمّة أحد الجبال بمناسبة حديثه عن الجبال، وقال: إنها تُنسب إلى أحد المكيين، وأشار أيضاً إلى ذهاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى ذلك المكان وما حصل فيه من مبايعة الرجال والنساء له، ووصف ذلك الموقف بالتفصيل ذاكراً ما جرىٰ فيه بالشكل التالي:
أخبرني عبد اللّٰه بن عثمان بن خُثَيم، أن محمد بن الأسود بن خلف أخبره، أنّ أباه الأسود حضر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يبايع الناس يوم الفتح، قال: جلس عند قرن مصقلة.
قال: وقرن مصقلة الذي إليه بيوت ابن أبي ثُمامة، وهي دار ابن سُمرة، وما حولها.
قال الأسود: فرأيتُ النبي صلى الله عليه و آله و سلم جلس إليه، فجاءه الناسُ الصغار والكبار، والرجال والنساء، يبايعونه على الإسلام والشهادة. قال: قلتُ: وما الشهادة؟ قال: أخبرني محمد بن الأسود أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بايعهم على الإيمان باللّٰه، والشهادة: لا إله إلّااللّٰه 4.
كتب في هذا الفصل أيضاً - وبمناسبة الحديث عن «شعب البيعة» عن بيعة العقبة، وأسهب في وصف من شهدها وكيفية حصول تلك الواقعة وما جرىٰ خلالها، ولا يخلو هذا الموضوع من الأهمية بسبب ما يحتويه من جوانب تاريخية مهمّة تساعد على معرفة الظروف التي سهّلت هجرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة المنوّرة.
خصص الفصل الثامن عشر (246 - 311) للحديث عن منىٰ وما يتعلق بها، وما لها من فضيلة ومكانة، وحدودها وأحكامها، وكيفية رمي الجمرات، والطرق المؤديّة إليها. ومنازل النبيّ والخلفاء فيها، ومسجد خيف وما يمتاز به من فضائل، والمواضيع المتعلّقة به كالعبادة وقيام الليل فيه، وكذلك أحكام رمي الجمرات، وما جاء في أدب العرب عن منىٰ وما يرتبط بها.
ومن المواضيع الأخرى التي تطرّق إليها هذا الفصل هو مسجد «الكبش» وفضيلته والأخبار التي وردت فيه، وأوّل من رمى الجمرات، ورمي جمار إبراهيم عليه السلام باعتبارها سُنّة قديمة، والدعاء والذكر أثناء الرمي، واسم مقبرة منىٰ، وأوّل من نصب صنماً في هذه البقعة، ومساحة مُنىٰ ومدىٰ طولها وعرضها، ومساحة مسجدها.
ينتهي المجلد الرابع بالفصل التاسع عشر (311 - 329) وفيه جرى التركيز على المزدلفة، ووجه تسميتها، وفضيلتها، وأحكامها، والطرق المؤديّة إليها. وتحدّث هذا الفصل أيضاً عن قُزَح (وهو جبل قليل الإرتفاع في جنوب شرقي مزدلفة ويشرف على مسجد المشعر الحرام) والمشعر الحرام ومسجد المشعر الحرام، والمسافة الفاصلة بينه وبين عرفات. تتسم النُصوص والمعلومات الواردة في هذا الفصل بالدقّة والطرافة والأهمية.
أما الفصل العشرون من الكتاب (ج5، 5 - 54) فهو مكرّس للحديث عن عرفة وحدودها وفضيلتها وأحكامها، ووصف مسجدها، وفضيلة الدعاء في عرفة والصوم فيها، ووقوف النبيّ فيها قبل وبعد الهجرة. وتولى هذا الفصل أيضاً بيان سبب تسمية تلك الأرض باسم عرفة، ووصف منبرها والبعد الفاصل بينه وبين المسجد الحرام ، وذكر بالمناسبة قبر «ميمونة» زوجة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم ومحلّه في أطراف مكّة.
الفصل الحادي والعشرون (57 - 106) وهو الفصل الأخير من الكتاب، ويبيّن بعض الأماكن المعروفة الواقعة على مقربة من مكّة من أمثال مسجد التنعيم وما له من فضائل وما ورد فيه من أخبار، ومسجد الجعرانة، ومسجد الحديبية، وأخبار عن عدد العمرات التي أدّاها النبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم. والمدن والقرى الواقعة في أطراف مكّة التي كانت تتبع سلطة والي مكّة، والمناطق التي وطأتها أقدام النبيِّ وأصحابه في الغزوات و. . . الخ.
إنّ نظرة سريعة على الفصول الذهبية لكتاب الفاكهي تظهر لنا وبكلّ وضوح مدى الأهمية والمنزلة السامية التي يحتلّها هذا الكتاب في تاريخ الإسلام ومكّة، ودوره في التعرّف على الحوادث التي وقعت في صدر الإسلام. ولا يقتصر كتاب الفاكهي على سرد تاريخ مكّة فحسب، بل ويتعدّاه أيضاً إلى تدوين تاريخ السياسة والثقافة والأدب والاعتقادات والسُنَن التي كانت سائدة في مكّة أثناء العصر الجاهلي، وبداية ظهور الإسلام. إن استقراء الجوانب المختلفة لذلك الكتاب تظهر لنا وبكلّ وضوح بأنّه كتاب لا يستغني عنه أيُّ محقّق أو مؤرّخ أو فقيه أو مفسّر أو محدّث أو باحث راغب في إدراك حقائق الإسلام عن طريق البحث والدراسة.
وكما ذكرنا سابقاً فإن الفاكهي لم يبوّب الكتاب، والفصول الآنفة على أساس التقسين الذي أوجده المحقّق الجاد والبارع للكتاب.
ملحقات الكتاب:
سبقت منّا الإشارة إلى أنّ ما استعرضناه من كتاب الفاكهي يمثل الجزء الثاني منه. وقد تولّىٰ محقّق الكتاب عملية استخراج الجزء الأوّل منه، من المصادر المختلفة وأعاد صياغتها بالشكل والترتيب الذي نستعرضه فيما يلي على شكل ملحقات:
يتركز الحديث في الملحق الأوّل على كيفية مجيء إبراهيم عليه السلام إلى مكّة، وقصّة بئر زمزم، وذبح إسماعيل. ومما يلفت الانتباه أن الفاكهي في بحثه هنا يريد أن يثبت أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق وينبه إلى نفوذ النصوص المحرّفة لأهل الكتاب وتسلل الإسرائيليات إلى المصادر والمؤلفات الإسلامية.
تتحدّث النصوص الواردة في هذا الملحق أيضاً عن زواج إسماعيل بامرأة من العمالقة وكيفية مجيء بعض القبائل إلى مكّة، والسبب في تسمية أُولئك القوم بالعمالقة. والأخبار التي تبيّن تاريخهم العريق، وتذكر بعض القبائل التي سكنت تلك البقاع وبعض العادات والتقاليد التي كانت تطبع حياتهم الاجتماعية.
إضافة إلى ذلك ورد فيه ذكر الحروب والأيام التاريخية الهامّة التي مرّت بهم، و «النسيء» ومن كان مسؤولاً عنه، وأوّل من بَنى الكعبة والكيفية التي كان عليها البناء ووضع الحجر الأسود، وتطوّر بناء الكعبة بعد الإسلام حتّى زمن الفاكهي وغير ذلك من المواضيع.
إشتمل الملحق الثاني على بعض الرسومات التي أوردها المحقّق نقلاً عمّا كان الفاكهي قد عرضه في كتابه، وهي رسومات تصوّر بعض المناطق والأماكن المشهورة مع ايضاحات لأوضاعها، وبهذه الصورة يبيّن الترابط بين الماضي التاريخي لها وحاضرها المشرق.
يضمّ الملحق الثالث خرائط توضيحية عن مكّة والأطراف المحيطة بها، وهي تعكس وضع مكّة وما كانت عليه في ذلك الزمن، ومن جملة ما تضمّنته تلك الخرائط ما يلي:
1 - مكّة في القرن الثالث للهجرة.
2 - أشهر الدور والأماكن والجبال فيها.
3 - الآبار التي كانت فيها آنذاك.
4 - الينابيع والأحواض والبرك والصهاريج.
5 - الجدران والأسوار والقلاع.
6 - الطرق الرئيسة في مكّة، والمضائق والمنعطفات والطرق الجبلية والمقابر.
7 - الأماكن التاريخية والمساجد.
8 - رسوم دقيقة لبناء الكعبة، والمسجد الحرام وما يحيط به في العام 272 للهجرة في عهد خلافة المهدي العبّاسيّ.
بهذه اللمحة الوجيزة تنتهي مضامين هذا الكتاب القيم الذي تولّى المحقّق دراسته وتحقيقة بأسلوب منهجي شامل ومتين.
أُسلوب الفاكهي في تدوين الكتاب ونقل النصوص:
اتّضح لنا - من خلال الخلاصة التي استعرضناها لموضوع الكتاب - الأُسلوب الذي اتبعه الفاكهي في تحريره.
ونحاول فيما يلي التوسع في شرح هذا الموضوع. فهذا الكتاب يحتوي على ما يقارب الثلاثة آلاف حديث ونصّ ورواية، وقد وردت جميعها مؤيّدة بأسانيدها: وقد راعى المؤلف في نقله لتلك الأحاديث جميعَ الأصول المتّبعة في النقل والرواية وبشكل دقيق. فهو يصرّح أحياناً بأنه سمع الحديث (ج3، 222) ، ويشير في أماكن أُخرى بأنّه قد استقاه من مصدر آخر وعرضه على «شيخه في الحديث» ، ويظهر في أحيان أُخرىٰ بأنه نقل النص «إجازةً» (ج3، 174) . ويضيف في بعض المواضع قرائن أخرىٰ لعملية النقل ليثبت أن سَماعهُ كان قطعياً (ج5، 14 الرقم 2733) ، ويذكر أحياناً المكان الذي سمع فيه الحديث (ج3، 134 - ج2، 135) وإذا شكّ بكلمة في الحديث فإنّه يشير إليها (ج2، 111) . ويصرّح كذلك بذكر المحدثين الذين رآهم وكانوا واسطة له في نقل جميع هذه الروايات (ج2، 303) .
وإذا ورد أيُّ تصحيف في نصّ الحديث فهو يصرّح به، ويشير إليه مذكّراً به بعد نقل الحديث (ج3، 34 - ج4، 30) .
وهو مع كل هذا يعطي رأيه في بعض الأوقات في كيفية الحديث وصحّته أو سقمه (ج3، 160) .
ومن بعد هذا يَحسُن بنا القول بأنَّ الفاكهي قد ولد بمدينة مكّة، ونما وترعرع بين ربوعها، وعلى هذا فإن القسم الأعظم من الكتاب يتألّف من أوصاف وتصاوير تمّت مشاهدتُها عياناً ومن غير واسطة، وقائمة على الدقّة والأمانة.
ولم يكتف المؤلف بنقل الآثار والأخبار بل إنّه نقدها وأعطىٰ رأيه فيها بعد دراسته وتمحيصه لها. وتتجلّىٰ هذه المسألة على أشدّها في البحوث الفقهية، ولا سيما تلك المتعلّقة منها بالطواف والسعي والإحرام والوقوف في عرفة وتحديد مواقع وحدود الأماكن المقدّسة والتاريخية.
وللأدب العربي في هذا الكتاب أيضاً مكانته الرفيعة والمرموقة. فهو يستعرض الأشعار العربية في المناسبات المختلفة، ويكون بهذا قد مزج بحوث الكتاب بصبغة الأدب العربي وخلّف وراءه أثراً أدبياً طريفاً. ومن الأوجه الأخرى التي تستوجب الثناء في كتاب الفاكهي هو تنوّع المآخذ وتعدد مصادر النقل. وإلى جانب كل هذا ينبغي القول: إنّه قد بذل جهداً مضنياً في جمع وتبويب الأخبار، ونقل الأسانيد بدقّة متناهية لكي يبقي الأبواب مُشرعة أمام المحقّقين اللاحقين لنقد وتقييم الأُسلوب الذي اتّبعه في نقله.
مؤلف الكتاب:
هو محمّد بن اسحاق بن العباس الفاكهي من العلماء والمؤرخين والمحدّثين في القرن الثالث الهجري. لا توجد معلومات دقيقة عن سَنَة ولادته، ويحتمل محقّق الكتاب أن تكون سنة ولادته ما بين عام 215 - 220 في مدينة مكّة ، ونشأ وترعرع فيها وبدأ دراسته فيها أيضاً؛ فأخذ العلم عن مشايخ مكّة، ولم يقف عند هذا الحد بل سافر إلى البلدان الأخرىٰ لكسب المعرفة وتعميق ما ناله من العلوم. ومن جملة البلدان التي سافر إليها بغداد والكوفة وصنعاء، وحضر في حلقات العلم التي كان يعقدها مشايخها وعلماؤها وأخذ عنهم العلم والمعرفة.
كانت له في مكّة مكانة اجتماعية مرموقة، وهذه الحقيقة يمكن استنتاجها من بين ثنايا النصوص التي أوردها في كتابه، فهو يدوّن في بعض الأحيان أحداثاً، ويصف مواضع ومواقف لا يتيسّر للمحدّث العادي الوصول إليها. ومن القرائن الأخرى الدالّة على سموّ مكانته هي الأخبار التي أوردها، وتحدّثَ فيها عن المراسلات التي كانت تجري بين الأمراء ووصفه الدقيق لها.
أحصىٰ محقّق الكتاب 231 شيخاً من مشايخ الفاكهي وذلك استناداً إلى ما ورد من أخبار ونصوص في «أخبار مكّة» (ج1، 19 - 29) ، وهذا يدلّ على سعيه الحثيث ونشاطه الدؤوب من أجل تحصيل العلم وتوسيع دائرة معارفه.
تاريخ وفاة الفاكهي مجهول أيضاً. يقول محمد بن أحمد بن علي الفاسي: « لا أعلم سنة وفاته، إلا أنه كان في العام 272 حيّاً قطعاً 5. وقد نقل قول الفاسي هذا الكثير من كُتّاب السيرة واعتمدوا عليه 6. ويرى البغدادي أنه توفي عام 285 من غير ذكر أيّ مصدر موثوق لهذا القول 7.
أما محقّق الكتاب فيرجّح - ومن خلال دراسته وتدقيقه في الأخبار والنصوص التي أوردها الفاكهي في كتابه - أنّ سنة وفاته كانت بين عام (272) وعام (279) .
تحقيق الكتاب:
تولى تحقيق الكتاب وتنقيحه عبد الملك بن عبد اللّٰه بن دهيش وهو من الكُتاب والفضلاء السعوديين. ونشره في 6 أجزاء مزوّدة بالهوامش التفصيلية. الأجزاء من (1 - 5) هي نصّ الكتاب وملحقاته، أما الجزء السادس فهو مختص بالفهارس. ويُعَدّ تحقيق هذا الكتاب واحداً من الأمثلة الرائعة التي يُحتذىٰ بها في التحقيق العلمي للنصوص القديمة.
ونحاول إنهاء هذه المقالة بإلقاء نظرة سريعة على النمط الذي اقتفاه في تحقيقه لهذا الكتاب:
1 - نصُّ الكتاب:
لقد قام المحقّق بتنقيح الكتاب على أساس النسخة الوحيدة الموجودة منه، وقابل هذه النسخة مع مصادر الكتاب، ومع الكتب الأخرى التي ألّفها معاصروه أو اللاّحقون من العلماء، وتضمنت كتبهم شيئاً مما نقلوه عنه، أو كان فيها مواضيع مشابهة لمواضيع كتابه؛ وذلك لغرض الحصول على نصّ سليم ودقيق. وقد ثبّت في النصِّ كلَّ ما رآه صواباً بعدَ أن بذل جهداً حثيثاً وتحقيقاً مناسباً ودقيقاً في مقارنة النسخة الموجودة مع ما ذكرنا من مصادر، وذكر في الهامش موارد التحريف والتصحيف والأخطاء التي وقعت في النسخة الخطيّة. وصحّح أسانيد الكتاب بمراجعة لكتب الرجال، وهذّبها من كل ما لحق بها من تحريف وسقطات وتصحيف، فشخص الحديث بدقّة وذكره كما هو، إن كان صحيحاً أو ضعيفاً أو ما شابه ذلك. وخرّج كل ما حواه الكتاب من أشعار وأخبار وأحاديث وآثار وحدّد أماكنها بالدقّة في مصادرها.
2 - الهوامش:
ذكر المحقّق في الهوامش مصادر النقل بدقّة، وأشار فيما إذا كانت هذه الروايات والأخبار لها نظائر في المصادر، وكان أحياناً يشير بإيجاز إلى شخصية الراوي، ويشير إلى موقعه بين رجال الحديث. وإن كانت الوقائع والحوادث والأماكن غير واضحة الدلالة في النصِّ ومذكورة فيه باختصار، فإنّه يوضّحها ويُبيّن دلالتها بدقّة ويُصحّح أخطاء المحقّقين في هذا المجال إن وُجدت، إضافةً إلى أنّه كان يوضّح غامض الكلمات.
3 - الفهارس:
خصّص المحقّق المجلد السادس للفهارس الفنيّة للكتاب، وأورد فيه فهارس للآيات والأحاديث، والأعلام، والأشعار، والأماكن، والمصادر، والمواضيع. فقد رتّب الأحاديث في فهرسها الخاص على أساس الحروف الأبجدية ومن ثم ذكر الراوي وموضعه في الكتاب.
وقسّم أيضاً فهرس الأعلام إلى الأقسام التالية:
1 - فهرس الرواة؛ وحدّد في هذا الفهرس مشايخ الفاكهي بالحرف (ش) .
2 - فهرس الرجال والأعلام الذين وردت أسماؤهم في الكتاب من غير الرواة.
3 - فهرس أصحاب الحرف.
4 - فهرس القبائل والأقوام.
ورتّب أيضاً فهرس مواضيع الكتاب متسلسلة وفقاً لحروفها الأبجدية. ونظم في الفهرس كلَّ المواضيع والأماكن والحوادث التي ورد لها ذكر في الكتاب. وأتىٰ في فهرس الأشعار على ذكر الأشعار أوّلاً ثم ذكر من بعدها القافية واسم الشاعر.
أما فهرس المراجع فقد حدّد فيه بدقّة المصادر والمراجع التي اعتمد عليها. وأورد في خاتمة الكتاب فهرساً عاماً لمواضيع المجلّدات الخمسة.
4 - مقدّمة الكتاب:
افتتح المحقّق الكتاب بمقدّمة تحقيقية مطوّلة ومفيدة ضمّنها شرحاً لسيرة المؤلف وشيوخه وتلاميذه.
وقد سبق لنا أن قُلنا: بعدم توفّر معلومات وافية عن سيرة المؤلف في كتب السيرة. وقد تحدّث المحقّق - بشكل مفصّل ومن خلال التمعّن في نصوص الكتاب - عن سيرته والتاريخ التقريبي لولادته ووفاته، وما قام به من رحلات في طلب العلم، وعن مكانته العلمية والاجتماعية في القرن الثالث للهجرة، ومشايخه وتلاميذه. ثم انتقل إلى الكلام عن كتاب الفاكهي، فأبرز أهميته، وذكر المصادر والمراجع التي عوّل عليها الفاكهي، وأوضح مدى التأثير الذي خلّفه في آثار مَن جاء بعده.
وبيّن في ختام مقدّمته الأسلوب الذي اقتفاه في دراسة الكتاب وتحقيقه وتنقيحه. إنّ تحقيق هذا الكتاب يمثّل نموذجاً ملموساً للتحقيق العلمي والمتعمّق والواسع والدقيق.
الهوامش:
« الإخلاص في الحج»
عادل العلوي
قال اللّٰه تعالى في كتابه الكريم:
« وما أُمروا إلّاليعبدوا اللّٰه مخلصين له الدين. . .» 8.
لقد خلق اللّٰه الإنسان في أحسن تقويم، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى: «فتبارك اللّٰه أَحسن الخالقين» 9وركّبه من سرّ وعلن، وروح وبدن. وبدنه من تراب وروحه من أمر ربه «ونفختُ فيه من روحي» 10فأودعه أسرار خلقه.
جرمه صغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر. فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، فعلّمه الأسماء الحسنى وفهّمه البيان الأتم، وأناله اللّٰه تعالى بخضوعه وعبوديته له المقام الشامخ، فإن العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، وأنطقه بأقواله سبحانه ومَن أصدق من اللّٰه قيلاً، وأصبغه بصبغته ومَن أحسن من اللّٰه صِبغة، وهداه النجدين:
نجد الخير ونجد الشر، وجعله مختاراً في سلوك الطريقين إمّا شاكراً وإمّا كفوراً.
وخلق لروحه وبدنه منافيات وملائمات، وآلام ولذّات، ومنجيات ومهلكات، فمنافيات البدن الأمراض والأسقام الجسمانية، وملائماته الصحة واللّذات الجسمانية، والمتكفّل ببيان تفاصيل هذه الأمراض، وكيفية علاجها هو علم الطب، ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق وذمائمها التي تهلكه وتشقيه، وترديه وتهويه إلى أسفل السافلين، فيكون كالأنعام بل أضل سبيلاً، وقلبه كالحجارة بل أشدّ قسوة. والمتكفّل ببيان هذه الرذائل الأخلاقية ومعالجاتها هو (علم الأخلاق) .
أما صحة الروح فتتمّ برجوعها إلىٰ فضائل الأخلاق ومحامدها التي تُنجيه وتُسعده في الدارين، وتأخذ بيديه إلىٰ مجاورة أهل الحقّ عند مليك مقتدر في مقعد صدق.
وإنما بعث اللّٰه رسوله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه و آله و سلم ليتمّم مكارم الأخلاق، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: « إنّما بعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق» وقد مدحه ربّه في قوله تعالى: «وإنك لعلى خلق عظيم» 11. وقد أقسم في سورة الشمس بأحد عشر قسماً أنه «قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها» حتى قيل أوجب الواجبات الأخلاق الحسنة والمحمودة.
ثم البدن ماديّ فانٍ، وكل من على الأرض فان. والروح مجرد باق، وإذا اتّصفت بشرائف الأخلاق كانت منعّمة في السعادة الأبدية، وإن اتّصفت برذائلها كانت في الشقوة والعذاب مخلّدةً.
فعلى المرء الواعي أن يهذّب نفسه، ويزكّي أخلاقه، ويعالج أمراضه، قبل فوات الأوان. كما أن المريض ينبغي له أن يعالج بدنه وصحته. وكلُّ شيءٍ إنما يعالج بضدّه، فإن علاج اليابس بالرطب، والرطب باليابس، والحار بالبارد والبارد بالحار، وهكذا أمراض الأخلاق، فإن الجهل يُعالج بالعلم، والبخل بالسخاء، والكبر بالتواضع، والشّره بالكفّ عن الشهوات، ومرض الرياء بالإخلاص. وإن كان ذلك كلّه يستلزم التكلّف والمرارة، فإنّ مَن أراد أن يعالج مرض بدنه عليه أن يتحمّل مرارة الدواء، وأن يصبر عن المشتهيات، وكذلك الروح حيث يُريد الإنسان علاجها فلابد له من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر الذي هو سيّد الأخلاق. فيصبر على فعل الطاعات والعبادات، وترك المعاصي والآثام، ليداوي بالصبر أمراض القلوب. وإن علاجها أولى من علاج الأبدان، فمرض البدن يخلص الإنسان منه بالموت، ولكن مرض الروح - والعياذ باللّٰه - يدوم حتى بعد الموت.
فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه أن يباشر المعالجة قبل الموت، فإنه سيندم يوم لا ينفعه الندم.
ثم أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه، ويرى عيوبها ومهلكاتها. فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته، لم تخف عليه عيوبه. ومن عرف الأمراض والعيوب يسهل عليه التداوي والتخلّص منها. ولكنّ أكثرَ الناس جهلوا عيوب أنفسهم، فيرون القذى في أعين الآخرين، ولا يرون الجذع في عيونهم.
ولابدّ من الاعتدال والحكمة في الأخلاق فهما الصحة للقلب والنفس والروح. أما الميل والانحراف عن حدّ الاعتدال فهما المرض والسقم الذي يخاف منه.
وعلاج النفس لمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عنها، يكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة، كما أن تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة، وتحلّيه هو الآخر بالأخلاق الفاضلة، يجعل الروح أكثر جلاءً، ويصقلها حتى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار اللّٰه وكونه.
ثم الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال، وإنما تعتريه العلل المغيرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال. وكذلك الروح، فكل مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة، وإنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، فالمحيط والتربية والتعلّم والتعوّد لها الأثر البالغ في اكتساب الإنسان الرذائل والآثام.
ولما كان البدن في ابتداء خلقه لم يخلق كاملاً، وإنما ينمو ويكمل وتقوى القوى فيه بالنشوء والتربية بالغذاء والماء، فكذلك النفس تخلق ناقصة، إلا أنها قابلة للتكامل المنشود في جبلته، والذي خُلق الإنسان من أجله، يصل الإنسان بجهده وجهاده إلىٰ كماله، وأن يكون مظهراً لأسماء اللّٰه وصفاته. وتكمل هذه النفس بالتزكية وتهذيب الأخلاق، وتغذيتها بالعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ.
وإذا كان البدن صحيحاً، فشأن الطبيب حينئذٍ تمهيد القانون وبيانه للصحة والمحافظة عليها، وإن كان البدن مريضاً فشأن الطبيب أيضاً جلب الصحة إليه، فكذلك النفس، فإن كانت سليمة وزكيّة ومهذّبة الأخلاق، فينبغي السعي من أجل حفظها وسلامة صحتها وبقائها، واكتساب زيادة صفائها وجلائها، وإن كانت عديمة الكمال، فاقدة للصفاء الروحي، فينبغي الجهد المتواصل لجلب الصحة النفسيّة إليها.
هذا ومن أمراض القلب الخطرة جداً هو الرياء في النوايا والعمل، فإنّه كدبيب نملة سوداء في ليلة ظلماء على صخرة صلداء، فمَن يحسّ بدبيبها؟ وان الرياء من عمل الشيطان الرجيم ليضل الناس ويغويهم «قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين» 12.
ويقابل الرياء الإخلاص، « والأعمال بالنيات» - كما ورد في الخبر - « ولكل امرئ ما نوىٰ» ، والنيّة من عمل الجوانح وهو القصد القلبي نحو العمل المقصود اتيانه والمنشود فعله. ولو كانت النية خالصة للّٰه سبحانه فإنها توجب قبول الأعمال، فإنّ الكلم الطيّب - وهو الذي فيه الإخلاص كما ورد في الأثر - يصعد إلى اللّٰه سبحانه، وإنما يتقبّل اللّٰه من المتقين، والإخلاص أساس التقوى.
قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء 13.
وقال صلى الله عليه و آله و سلم: العلماء كلّهم هلكى إلّا العاملون، والعاملون كلّهم هلكى إلّاالمخلصون والمخلصون على خطر.
وقال صلى الله عليه و آله و سلم: إذا عملت عملاً فاعمل للّٰهخالصاً لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان خالصاً.
وقال صلى الله عليه و آله و سلم: ليست الصلاة قيامك وقعودك إنما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها وجه اللّٰه.
وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام:
العمل كلّه هباء إلا ما أُخلص فيه.
وقال عليه السلام: ضاع مَن كان له مقصدٌ غير اللّٰه.
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
ولابدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون؛ لأنه إذا لم يكن ذلك منه يكن غافلاً، والغافلون قد وصفهم اللّٰه تعالى فقال: «أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلاً» وقال: «أولئك هم الغافلون» .
قال اللّٰه تعالى عن لسان نبيّه:
« قل إنّي أمرت أن أعبد اللّٰه مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أوّل المسلمين» 14.
قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ لكل حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل للّٰه.
وقال صلى الله عليه و آله و سلم في حديث آخر:
« أما علامة [ علامات ] الُمخلص فأربع: يسلم قلبه وتسلم جوارحه وبذل خيره وكفّ شرّه.
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: مَن لم يختلف سرّه وعلانيته، وفعله ومقالته فقد أدّ الأمانة وأخلص العبادة.
قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين في بيان حقيقة الإخلاص - بعد أن ذكر أقوال الشيوخ فيها -:
الأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة، وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين، إذ سُئل عن الإخلاص فقال: « هو أن تقول ربّي اللّٰه ثم تستقيم كما أُمرت» أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربّك، وتستقيم في عبادته كما أمرك - إياك نعبد وإياك نستعين - وهذه إشارة إلىٰ قطع كلّ ما سوى اللّٰه عزّ وجلّ من مجرى النظر وهو الإخلاص حقّاً.
ثم من آثار الإخلاص في حياتنا الفردية والاجتماعيّة، وفي العلميّة والعمليّة، هو تفجّر ينابيع الحكمة وجريانها من قلب المخلص على لسانه.
وقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: قال اللّٰه عزّ وجلّ: لا أطلّع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته.
وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام:
غاية الإخلاص الخلاص. والمخلص حريّ بالإجابة، وعند تحقق الإخلاص تستنير البصائر، وبالإخلاص ترفع الأعمال، وفي إخلاص النيّات نجاح الأمور، ومَن أخلص بلغ الآمال، أخلص تنل.
حريّ أن تكتب هذه الكلمات بأقلام من نور على وجنات الحور، فما أروع قوله عليه السلام: أخلص تنل.
كلمتان فقط ولكن فيها ما فيها من الأسرار والحِكم والحقائق، فإن الإنسان إنما ينال ما ينال بالإخلاص.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن المؤمن ليخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء، ثم قال: إذا كان مخلصاً للّٰه أخاف اللّٰه منه كلّ شيء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء.
ثم يا هذا هل بعد الإخلاص من مقصود ومنشود؟
وقد قال الإمام الباقر عليه السلام: ما بين الحق والباطل إلا قلّة العقل - أي من يختار الباطل فهذا من قلّة عقله - قيل: وكيف ذلك يا بن رسول اللّٰه؟ قال: إن العبد يعمل الذي هو للّٰهرضىً فيريد به غير اللّٰه، فلو أنه أخلص للّٰه، لجاءَه الذي يريد في أسرع من ذلك 15.
هذا في الإخلاص الذي هو من جنود العقل، ويقابله الرياء الذي هو من جنود الجهل، وقد قال اللّٰه تعالى في محكم كتابه: «ولا تكونوا كالّذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل اللّٰه» 16.
قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لابن مسعود: يا بن مسعود إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين، وأنت فيما بينك وبين ربّك مصر على المعاصي والذنوب. يقول اللّٰه تعالى:
« يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» .
وقال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه 17.
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:
المرائي ظاهره جميل وباطنه عليل.
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
إياك والرياء فإنه من عمل لغير اللّٰه وكله اللّٰه إلىٰ من عمل له.
وعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول اللّٰه - عزّ وجلّ - اجعلوها في سجّين إنه ليس إيّاي أراد به.
وفي حديث آخر: تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به فيطأُون الحجب كلّها حتى يقوموا بين يدي اللّٰه فيشهدوا له بعمل صالح ودعاء، فيقول اللّٰه تعالى: أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إنه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي.
وقال صلى الله عليه و آله و سلم: إن المرائي يُنادى يوم القيامة: يا فاجر! يا غادر ! يا مرائي! ضلّ عملك وبطل أجرك، اِذهب فخذ أجرك ممّن كنتَ تعمل له.
وقال الصادق عليه السلام: ما على العبد إذا عرفه اللّٰه ألّا يعرفه الناس؟ إنّه من عمل للناس كان ثوابه على النّاس، ومن عمل للّٰهكان ثوابه على اللّٰه، وإن كلّ رياء شرك.
قال اللّٰه عزّ وجلّ: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريءٌ فهو للذي أشرك.
وقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ اللّٰه تعالى لا يقبل عملاً فيه مثقال ذرّة من رئاء.
وقال صلى الله عليه و آله و سلم: يا بن مسعود إذا عملت عملاً من البرّ وأنت تريد بذلك غير اللّٰه فلا ترج بذلك منه ثواباً فإنّه يقول: «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً» 18.
وعن شدّاد بن أوس قال:
رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يبكي، فقلتُ: يا رسول اللّٰه! ما يبكيك؟ فقال: إني تخوّفت على أُمتي الشرك أما إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً، ولكنهم يراؤون بأعمالهم.
وعن الإمام الصادق عليه السلام:
يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلّى فيقول:
يا ربّ صلّيت ابتغاء وجهك فيقال له:
بل صليت ليقال ما أحسنَ صلاة فلان اذهبوا به إلى النار.
ولكلّ شيءٍ علامة، وقد جاء في علامة المرائي عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: « اما علامة [ علامات ] المرائي فأربع؛ يحرص في العمل للّٰهإذا كان عنده أحد، ويكسل إذا كان وحده، ويحرص في كل أمره على المحمدة، ويحسن سمته بجهده» .
وقال الإمام الباقر عليه السلام:
الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل. قال الراوي وما الإبقاء على العمل؟ قال:
يَصلُ الرجل بصلة، وينفق نفقة للّٰه وحده لا شريك له فتكتب له سراً، ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانيةً، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً.
قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في وصف المؤمن: لا يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً. وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام:
كلّ حسنة لا يراد بها وجه اللّٰه تعالى فعليها قبح الرياء وثمرها قبح الجزاء.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعاً فأفضلها ما كان سرّاً، وما كان من ذلك واجباً مفروضاً فأفضله أن يعلن به 19، فالرياء حرام والمرائي عند اللّٰه سبحانه ممقوت ومغضوب عليه، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار كما ذكرنا.
هذا غيض من فيض في أخبار الإخلاص والرياء وبيان حدودهما وما يترتب عليهما من الآثار في الدنيا والآخرة.
وبعد هذه الوقفة العاجلة عند عظمة الأخلاق الإسلاميّة، ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء، وإنّ القلبَ منشؤهما ومحطهما، فإنه العالم باللّٰه وهو العامل للّٰه، والساعي والمخلص والمتقرب إليه، وهو الكاشف بما عند اللّٰه ولديه، وإنما الجوارح أتباع له، وخَدَم وآلات يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة، وهو المقبول عند اللّٰه إذا سلم من غير اللّٰه، وهو المحجوب عنه إذا صار مستغرقاً بغير اللّٰه، وهو المخاطب وهو المطالب، وهو المثاب والمعاقب، فيفلح الإنسان إذا زكّاه، ويشقى ويخيب إذا دَنّسَهُ ودسّاه، وهو المطيع للّٰهبالحقيقة، وإنما التي تظهر على الجوارح الظاهرية من العبادات أنواره، فهو سلطان البدن، وهو العاصي المتمرد على اللّٰه، وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره. وبظلمانيته ونورانيته تتجلّى المحاسن الظاهرية ومساويها، فإن كلّ إناء بما فيه ينضح، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربّه، فتارة يهوي إلىٰ أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل هو أضلّ سبيلاً، وأخرى يصعد إلىٰ أعلى عليين، ويرتقي إلىٰ عالم الملائكة المقرّبين.
ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه، فهو ممّن قال اللّٰه تعالى فيه: «ولا تكونوا كالذين نسوا اللّٰه فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون» 20. فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس السالكين، فلا تغفل.
فلابدّ للمؤمن من أن يخلص في نواياه وأعماله، وحركاته وسكناته، حتى يلقى اللّٰه وليس في قلبه سواه وذلك هو القلب السليم، الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
والمؤمن الحاج، والمؤمنة الحاجة لابدّ لهما من الإخلاص في مناسكهما، وفي حجّهما وعمرتهما، فإنّ الحجَّ من فروع الدين ومن العبادات، وشرطها الأوّل النيّة الخالصة متقرّباً بها إلىٰ اللّٰه سبحانه وتعالى.
والحجُّ من العبادات الدينية والسياسيّة والاجتماعية ذات المفاهيم القيّمة، روحياً وبدنياً، فرديّاً واجتماعيّاً، في جميع جوانب الحياة من العبادة، والإقتصاد والسياسة، والثقافة والحضارة، والأخوة الإسلاميّة وغير ذلك.
ويكفي في شرافة الحج، ومقامه الشامخ في الدين الإسلاميّ الحنيف، أنه أحد الأركان التي بني عليها الإسلام، فهو من الأسس الأولى التي يعلو عليها الإسلام العظيم. وتتجلّى في الحجِّ روح المحبّة والأخوة والصفاء، وحكومة الروحانيّات على الماديّات.
وكل مسلم متحمّس لدينه يرى في حجّه وعمرته، أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأن هذا الدين القيم لو تمسّك به أهلُه حقَّ التمسك، وطبقوه في كل زوايا حياتهم لحكم العالم ولرفرفت راياته على ربوع الأرض ولو كره المشركون.
فإن الإنسان الضائع، والبشرية التائهة تجد انشودتها وسعادتها في هذا الدين، فهو يتكفل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة.
فالحجُّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه، وكرامة المسلمين وشرفهم، فليس لأُمّة وملّة من الأمم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم، والمشهد السنوي الكبير، الحافل بالخيرات والبركات؛ ليشهدوا منافع لهم؛ ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم، وطوائفهم، واشكالهم وألوانهم ولغاتهم، ولا يتميز غنيّهم عن فقيرهم ورئيسهم عن مرؤوسهم، وكلّ واحد منهم وقد اتزر بأحد ثوبي الإحرام وارتدى بالآخر؛ ليلبي دعوة اللّٰه، التي يدوي صداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى: «وأذن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق» 21.
فالحجّ فلاح وصلاح وقد أفلح من اقامه، ورفع بنيانه كما أمر الشارع به، وإنما ركّز القرآن الكريم، ورسولُ اللّٰه الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم، وأهل بيته الأطهار عليهم السلام على الحجِّ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي، ولأنّه يحتوي على كثير من العبادات، والفضائل الأخلاقية، والخير والإحسان الاجتماعي، والثواب الأخروي فإنه من بين أركان الإسلام ومبانيه، عبادة العمر وختام الأمر، وتمام الإسلام وكمال الدين فيه، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:
« من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً» 22.
فهو نقلة اجتماعية، ورحلة جماهيريّة يتّجه فيها الناس من كل صوب ومكان؛ لأداء فريضة إلهيّة واجبة، في مكان مقدس واحد هو أشرف بقاع الأرض: مكّة المكرّمة.
وفي زمان واحد من الأشهر الحرم، ذي الحجة المبارك؛ ليمارسوا شعائر موحدة، ومناسك دينيّة، وطقوساً خاصة، تجرّد الإنسان عن عالم الماديّات، وتحلّق بروحه إلىٰ عالم ملكوتي وروحاني بلا نهاية، إلى الرفيق الأعلى فيكون قاب قوسين أو أدنى.
ولكن نوايا الناس مختلفة، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقىٰ معاذيره وأستاره، فقد روي في خبر من طريق أهل البيت عليهم السلام: « إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجِّ أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسُّمعة» 23.
فليس كلّ من أدى فريضة الحجِّ نال الكمال وبلغ العُلى، بل بشرطها وشروطها والإخلاص أوّل شروطها.
قال الإمام الصادق عليه السلام: الحجُّ حجّان: حجٌّ للّٰهوحجٌّ للناس، فمن حجّ للّٰهكان ثوابه على اللّٰه الجنّة، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة 24.
ولا يخفى أنّ من يدخل الجنة فهو من السعداء لقوله تعالى: «وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها . . .» 25، فمن كان سعيداً في حجّه، إنما يخلص للّٰهفي مناسكه ويبتغي وجه اللّٰه في أعماله، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة، فإن الدنيا الدنيّة دار ممرّ، وأهل الدنيا لا وفاء لهم، وفي الآخرة كلّ ينادي وانفساه، وكلّ يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤويه. فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير اللّٰه سبحانه، كما ورد في الخبر.
قال الإمام الصادق عليه السلام: مَن حجّ يريد به اللّٰه ولا يريد به رياءً وسمعة غفر اللّٰه له البتّة 26- أي قطعاً -.
فمن حجّ ليُنادىٰ في المجتمعات والنوادي: يا حاج فلان، يا حاجّة فلانة، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم، لم يصيبه من حجّه إلا التّعب والنّصب. والأعمال العبادية تبطل بالرياء فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذٍ. فهل بعد هذا إلا الإخلاص في النوايا والعمل؟ !
وعن الإمام الصادق عليه السلام في حديث يذكر علامات ظهور المهدي عليه السلام: . . . ورأيت طلب الحجّ والجهاد لغير اللّٰه. . . فكن على حذر واطلب من اللّٰه النجاة 27.
ختامه مسك:
ولنختم الموضوع بما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في أسرار الحجّ ودقائقه، وعلوّ معانيه وسموّ مفاهيمه:
روي في مصباح الشريعة عنه - صلوات اللّٰه وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين - أنّه قال: « إذا أردت الحجَّ فجرّد قلبك للّٰهتعالى من كلّ شاغل وحجاب كلِّ حاجب، وفوِّض أمورك كلَّها إلىٰ خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوقٍ تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك، وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالاً، فإنّ من ادعى [ ابتغى ] رضا اللّٰه، واعتمد على ما سواه، صيّره عليه وبالاً وعدوّاً؛ ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة، ولا لأحد إلّا بعصمة اللّٰه وتوفيقه.
فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض اللّٰه وسنن نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، وما يجب عليك من الأدب، والاحتمال والصبر، والشكر والشفقة، والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا، والخضوع والخشوع، وأحرم من كلِّ شيءٍ يمنعك عن ذكر اللّٰه، ويحجبك عن طاعته، ولبِّ تلبية صادقة صافية، خالصة زاكية للّٰهتعالى في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرولة من هواك، وتبرّأ من حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلّاتك بخروجك الى منى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند اللّٰه تعالى بوحدانيّته وتقرب إليه، واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان اللّٰه، وكنفه، وستره وكلاءته، من متابعة مرادك بدخولك الحرم، ودُر حول البيت محقّقاً لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع [ ودع ] ما سواه بطواف الوداع، واصف [وصفِّ] روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، وكن بمرأىً من اللّٰه، نقيّاً [ ونقِّ ] أوصافك عند المَروة، واستقم على شرط حجّتك هذه، ووفاء عهدك الذي عاهدتَ به مع ربّك، وأوجبته له الىٰ يوم القيامة.
واعلم بأنّ اللّٰه - تعالى - لم يفرض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلىٰ نفسه بقوله تعالى: «وللّٰه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً» ولا شرع نبيّه سُنّةً من خلال المناسك على ترتيب ما شرّعه، إلّا للإستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أولها إلىٰ آخرها لأولي الألباب وأولي النهى 28، انتهى كلامه صلوات اللّٰه عليه وسلامه، واغتنموا الفرص يا ضيوف الرحمن، ويا حجّاج بيت اللّٰه الحرام، وإنما يتقبّل اللّٰه من المتّقين المخلصين.
وآخر دعوانا أن الحمد للّٰهربّ العالمين.
الهوامش:
حِوارٌ مع ممثّل الولي الفقيه في شؤون الحجِّ والزيارة
مجلّةُ الميقات: في البداية نشكركم على إتاحة هذهِ الفرصة للاطلاع علىٰ آرائكم القيّمة بشأن الحجِّ وما يتعلق به من مسائل:
كم مرّة تشرفتم بالحجِّ، وفي أي الأعوام؟
ج: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم، بما أن هذا هو أول لقاء لي مع مجلة «ميقات الحجِّ» الغرّاء، لذا أودُّ الإشارة إلىٰ أنّ مكان هذه المجلة كان خالياً - حقاً - في مكتباتنا، وبين الكتب والمجلّات التي تصدر في الجمهورية الإسلامية والعالم الإسلامي، ومن حسن الحظ، مُلِئ هذا المكان الآن بحول اللّٰه - تعالى - وهمم الإخوة الأعزاء في معاونية التعليم والتحقيق لبعثة سماحة القائد الإمام الخامنئي (دام ظلّه) . وآمل أن تجد هذه المجلة طريقها نحو التكامل من خلال تعاون الكتاب الملتزمين كافة معها، لتحتل موقعها اللائق في العالم الإسلامي.
وفيما يخصّ الإجابة على سؤالكم لابد لي من القول: إنني لم أكن قبل انتصار الثورة الإسلامية قد تشرّفتُ بالحجِّ ، إلّاأنني - بعد انتصار الثورة الإسلامية - تشرفتُ بالحجّ مرتين وقبل أن أتولىٰ مسؤولية شؤون الحجّاج؛ المرّة الأولى في العام 1358 ه. ش حيث كنت مرشداً دينياً لإحدىٰ قوافل الحجاج، وفي المرة الثانية ذهبتُ - أيضاً - كزائر وكان ذلك علىٰ ما أظن في العام 1362 ه. ش. وفي عام 1370 ه. ش حمّلني سماحة القائد (دام ظله) مسؤولية شؤون الحجاج الإيرانيين إلىٰ بيت اللّٰه، وما زلتُ أتحمل هذهِ المسؤولية.
الميقات: الحجّ سفرٌ إلٰهي ومعنوي، والمعروف أنّ الذينَ يوفقون لهذا السفر - خصوصاً السفرة الأولىٰ - يحتفظون في ذاكرتهم بذكريات جميلة عن ذلك. فما هي أحاسيسكم ومشاعركم وأنتم تدخلون الحرمين الشريفين أول مرّة؟
ج: لا يمكن وصف الأحاسيس التي تتملك الإنسان في تلك اللحظات وايصالها إلى الآخرين. إنَّ الحالة التي تتملك الإنسان في السفرة الأولى لا تتكرر في السفرات التالية لها، حيث الإحساس بعظمة هذين المكانين المقدسين لهو من الذكريات التي لا يمكن نسيانها. فهناك الأماكن المقدسة التي كان يتواجد فيها الأنبياء العظام وأولياء اللّٰه الذين طافوا حول البيت الحرام. وهناك الأرض التي شهدت أهم الأحداث في تاريخ الإسلام، حيث انطلاقة الإسلام الأولىٰ.
فعندما عرف الإنسان هذه الأجواء للمرّة الأولىٰ، وراحت هذه المعاني تدخل ذهنه بنحو وآخر، تملكته حالة خاصة، وكم هو جميل وعظيم أن ينتفع بها في تزكية نفسه والتقرُّب أكثر فأكثر إلى البارئ تعالىٰ.
الميقات: منذ أعوام وأنتم تتعاطون الأحاديث والروايات. وتحفظون القرآن الكريم، لهذا فإنكم على معرفة واسعة بمعارف الثقلين حول الحجِّ. فما هي مكانة الحجّ في تعاليم القرآن والحديث؟
ج: يوجد في هذا المجال كلام كثير، كما أنه لا يمكن حتى حصر القليل منه في مقال، والأمر بحاجة إلى تأليف الكتب من أجل توضيحه من جميع أبعاده، وبالطبع يوجد هناك بعض ما كُتب في هذا المجال، إلّاأن ما يمكن طرحه بإيجاز في لقاء واحد هو: أن الحجَّ واحد من المرتكزات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية في الإسلام. والحجّ يُعد - إلى جانب الصلاة والصيام والخمس والزكاة وسائر فروع الدين - واحداً من أهم فروع الإسلام، ويمتاز عن بقية فروع الدين بجامعيته وشموليته. ففي الحجِّ تكون السياسة إلى جانب العبادة. والمسائل الثقافية إلى جانب العبادة.
وبقصارى الكلام يمكن القول: إنَّ الحجَّ هو المظهر الحقيقي لأبعاد الإسلام ومعارفه، وبعبارة واحدة، يجب استعمال التعبير القرآني الجميل في وصف الحجّ «قياماً للناس» وأنه مبدأ النهوض الشامل في العالم الإسلامي. ومن هنا فقد كان الإمام الخميني قدس سره يُعير أهميّة كبيرة للانتفاع بأجواء الحجّ الملكوتية في مختلف المجالات التي يحتاجها المجتمع الإسلامي.
فللقرآن الكريم تعبيران يدعوان إلى التأمل فيما يخصّ مكانة الحجِّ من وجهة نظر القرآن والإسلام.
الأول «قياماً للناس» الذي يعني أن الحجَّ هو مبدأ النهوض الشامل.
والثاني «ليشهدوا منافع لهُم» ويُستفاد من هذه الآية أن الشعوب الإسلامية عندما تحضر هي أو ممثِلون عنها في تلك الديار المقدسة، يجب أن تشهد منافع كثيرة. وكما بيّن ذلك الإمام الراحل قدس سره في بياناته القيّمة؛ المنافع مطلقة ولا تختص بمنفعة معيّنة. كما وجاء في الروايات - أيضاً - أنه عندما سُئل الإمام عليه السلام ما هو المراد من المنافع؟ المنافع الدنيوية أم الأخروية أم الاثنان معاً؟ أجاب الإمام عليه السلام: كل المنافع الدنيوية والأخروية.
فالإمام الراحل قدس سره يفهم من «ليشهدوا منافع لهم» شيئاً ملفتاً للنظر، فهو يقول: إنَّ أكبر المنافع الضرورية للمجتمع الإسلامي - اليوم - في العالم هو حقه الذي يجب أن ينتزعه من المستكبرين، فهذه الثروة العظيمة للمسلمين أي النفط الذي يأخذه الاستكبار العالمي من المجتمع الإسلامي مجاناً، يجب الحؤول دونه، يجب على الأمة الإسلامية أن تضع يداً بيد وتنتزع هذه المادة الحيويّة الماديّة من حلقوم الاستكبار العالمي، وتأخذ حقّها من الغزاة، وهذه المسألة يمكن للحجّ أن يضمنها. فبإمكان المسلمين في ذلك المؤتمر العظيم أن يتفاهموا ويتفقوا ويتحدوا ويقفوا بوجه المستكبرين، من أجل ضمان منافعهم الماديّة على الأقل.
الميقات: لقد أشرتم إلى نكتة مهمة جداً، فإن مسألة «قياماً للناس» و «ليشهدوا منافع لهم» يمكن للعالم الإسلامي أن ينتفع بها في الحجّ في المجالات المختلفة؛ السياسية، والاقتصادية و. . . والآن من المناسب طرح هذا السؤال وهو: ما هو الاختلاف بين الوضع الحالي للحجّ وبين المكانة التي وضع الإسلام فيها الحجّ، وما الذي يجب عمله من أجل الوصول إلى الحج المنشود؟
ج: يوجد بين الحج الحقيقي - أو بتعبير إمام الأمة، رضوان اللّٰه تعالى عليه، الحج الإبراهيمي - وبين الحجّ الحالي الفاقد للمحتوى اللازم اختلاف كبير. وفي الواقع لا يمكن مقايستهما مع بعض وهما يقعان في نقطتين متقابلتين.
فالحج الذي يُريده الإسلام الأصيل من المسلمين، هو الحجُّ الذي يكون مبدأً للنهوض والثورة. وهو الحجّ الذي يستطيع تأمين منافع المجتمع الإسلامي، لا أن يكون في صالح منافع أعداء الإسلام. إن المستكبرين يريدون من الحجّ أن يكون وسيلة لتهدئة المجتمع الإسلامي لهم، وتبرير تسلطهم على أراضي الإسلام.
ويجب القول: إنَّ الحج اختلف اختلافاً جذرياً بعد انتصار الثورة الإسلامية عن حجِّ ما قبل الثورة. ولقد أحيا الإمام الراحل قدس سره البُعدَ السياسي للحجِّ في سبيل إحياء الحجّ الحقيقي الأصيل. وقد سعى بنظرته الثقافية إلى إحياء هذا البُعد المهم للحج في حياته وليتركه اليوم كأمانة ثمينة وقيّمة بأيدي الأمة الإسلامية. والآن فإن مسؤولي الجمهورية الإسلامية هم المؤتمنون على هذه الأمانة، ونأمل أن نتمكن من حراسة هذه الأمانة الإلهية العظيمة بشكل لائق. إن إحياء البعد السياسي للحج هو الذي وضع الحجَّ في اتجاهه الصحيح. وإن كان يجب أن نعترف أنه لا تزال هناك مسافة كبيرة حتى نصل إلى الحجّ الحقيقي، إلّاأنه على أية حال، فقد ابتدأت هذه الحركة من قبل الإمام الراحل قدس سره ونظام الجمهورية الإسلامية المقدس في إيران على أمل أن تستمر وتتواصل حتى تحقيق كامل أهدافها.
الميقات: صحيحٌ أن الوضع الحالي للحج هو أفضل بكثير بالقياس إلى ما قبل الثورة، ولكن يبدو أنه لا زال هناك الكثير مما لم يُعمل. فما هي مقترحات سماحتكم من أجل إقامة مراسيم الحجِّ بشكل أفضل وأكمل؟
ج: إنّ أول ما يجب الانتفاع به من الحج هو «تربية النفس» حيث إنّ واحدة من المشاكل المهمة والأساسية للعالم الإسلامي هو تجاهل هذه المسألة. ولو زاد عدد القوى المخلصة والواعية والمسؤولة والأشخاص الذين يفكرون بحاجات العالم الإسلامي في المجتمعات الإسلامية فسوف يؤدي ذلك بشكل طبيعي إلى أن تقع السلطة في أيديهم، وتحلُّ مشاكل المسلمين بالنتيجة. وفي الظروف الراهنة، قد انطلقت شرارة الوعي والشعور بالمسؤولية في العالم الإسلامي ببركة الثورة الإسلامية، واكتسب الشباب المسلم في أكثر البلدان الإسلامية الوعي واليقظة، وبدأوا بإعداد أنفسهم. بأمل أن تستمر هذه الحركة - إن شاء اللّٰه - إلى أن تأخذ البلدان الإسلامية زمام أمورها بنفسها. فمالم يكن الإنسان قد ربَّ نفسه، لا يمكنه أن يخطو خطوات مؤثرة في سبيل تربية المجتمع الإسلامي، كما لا يمكنه أن يُفكر بحلول لمشكلات العالم الإسلامي، فإذا تمكن المسلمون أن يخطوا في الحجِّ هذه الخطة، إذا هم مستعدون لمواجهة مختلف المشاكل التي تأخذ - اليوم - بتلابيب العالم الإسلامي.
والشيء الثاني الذي يمكن للإنسان أن ينتفع به ويستفيد منه في الحجّ، ويُعد ضرورياً لمواجهة مشاكل العالم الإسلامي، هو «وحدة العالم الإسلامى» . فلو وضع أكثر من مليار مسلم يداً بيد، واستغلوا الإمكانيات والأماكن الحساسة والستراتيجية التي يمتلكونها كما ينبغي، فلن تتمكن أية قوة من مقاومتهم، ولأصبح القول الفصل لهم ليس في العالم الإسلامي وحسب بل في العالم كله. وأن أفضل مركزٍ يمكن أن يضمن الوحدة للمسلمين هو الحج.
إن موسم الحجّ لهو مجمع حقيقي للتقريب في العالم الإسلامي. فهناك يمكن لزعماء البلدان الإسلامية - علماءً كانوا أو سياسيين - أن يجتمعوا ويمدوا يد الوحدة بعضهم إلى بعض، ويفكروا بإيجاد حلولٍ لمعضلات العالم الإسلامي، بدلاً من الخلافات التي منشؤها - بالأساس - الأهواء النفسانية ووساوس الإنس والجن الشيطانية.
فإذا امتلك حَجُّنا هذين الشيئين أو البعدين (تربية النفس والوحدة) فسيكون حلّ مشاكل العالم بالنسبة للمسلمين بسيطاً، ولا تجد، والحال هذه، مشكلة تستعصي على الحل. وإذا كنّا اليوم نشهد مشاكل وقمع المسلمين في بلدان إسلامية؛ كالبوسنة والهرسك، وفلسطين المحتلة، وبعض المناطق الأخرىٰ الذين يتألم قلب كلّ إنسان لمظلوميّتهم، فإنَّ سبب ذلك يعود إلى انعدام الوحدة بين المسلمين، وعلى أي حال، يمكن الانتفاع بالحج لصالح المجتمعات الإسلامية الكثيرة فيما يتعلق بمختلف القضايا؛ الفردية، والاجتماعية، وكذلك القضايا الثقافية والعقائدية، والسياسية، والاقتصادية، وحتى العسكرية.
لقد كان إمام الأمة - رضوان اللّٰه تعالى عليه - يصدر أهم بياناته في أيام الحج، وهذا الأمر يدلُّ على مدىٰ اهتمامه وأمله بهذه القاعدة العظيمة! فقد كان الإمام قدس سره يعتقد وجوبَ أن يشع النور من هذا المركز ويُتحرك منه لحل مشاكل العالم الإسلامي.
لميقات: إن أعمال العمرة والحجّ والتمتع، من الإحرام حتى آخر المراحل، لكل واحد منها ميزة خاصة، ففي رأيكم أي هذه الأعمال، يمكن للإنسان أن يشعر فيها بذروة المعنوية؟
ج: إنّ مناسك الحج، من الإحرام حتى آخر عمل، هي مظاهر للجلال والعظمة. فعندما يحضر المسلمون من أقصىٰ نقاط العالم إلى تلك الديار المقدسة ويتركون جانباً كل المميزات؛ يؤدي الجميع، الفقير والغني، الأبيض والأسود، الرئيس والمرؤوس، الرجال والنساء، يؤدون جميعاً سلسلة أعمال واحدة جنباً إلى جنب، ويقفون لدعاء البارئ تعالى و. . . ولعله لم يكن يوجد مشهد عبادي واجتماعي أعظم واجلُّ من هذا المشهد. ولكن من بين جميع الأعمال، توجد بعض الأعمال التي تتمتع بميزات بارزة مثل الوقوف في عرفات، والوقوف في المَشعر، فهناك حيث يجتمع الحجاج في مكان واحد، بين جبال عرفات أو في صحراء المشعر، يُسلمون القلوب إلى البارئ تعالى، في تلك اللحظة الخاصة بين الطلوعين. ومن ثم يحضرون بعد ذلك جميعاً بمهابة لا يمكن وصفها إلى منىٰ حيث تصل العظمة والمهابة المعنوية غاية ذروتها.
الميقات: منذ السنة التي تشرفتم فيها إلى الحج وإلى الآن، تم تخريب الكثير من الآثار الإسلامية في مشروع توسيع الحرمين - وحتىٰ خارج المشروع - فما هو التحول والتغيير الذي شاهدتموه في هذه الأماكن منذ ذلك الوقت وإلى الآن؟
ج: مقدارٌ من هذه التغييرات، التي أُجريت في الأبنية التأريخية الإسلامية، يعود إلىٰ ما قبل انتصار الثورة، وإنني لم أكن قد وفقتُ للذهاب إلىٰ هناك قبل انتصار الثورة الإسلامية كي أتمكن من المقايسة بهذا الشأن. وبالطبع هناك كتب مؤلفة ومطبوعة بهذا الخصوص يمكن الرجوع إليها.
إلّاأنه منذ عام 58، الذي سافرت فيه إلى الحج لأول مرّة، وإلى الآن حصلت تغييرات كثيرة في مسجد النبي بالمدينة المنوّرة. ولم يكن موجوداً في عام 1358 كل هذا الموجود الآن في مشروع توسيع مسجد النبيِّ من أسواق، ودور، وفنادق، وكل هذه التغييرات قد حصلت خلال هذه الفترة التي تمتد إلى ما يقارب الخمسة عشر عاماً. كما قد أُجريت خلال هذه الفترة بعض التغييرات في البقيع. فمسجد قبا لم يكن بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، وإنما كان عبارة عن مسجد صغير. ولم يكن زقاق بني هاشم ودار الإمام الصادق عليه السلام قد تمّ تخريبه في ذلك الوقت. ولم يكن مسجد القبلتين بهذا الشكل الذي هو عليه الآن. وكذلك مسجد الشجرة لم يكن بشكله الفعلي الآن وإنما كان عبارة عن مسجد صغير. هذه هي التغييرات الحاصلة في المدينة المنوّرة.
وفي طريق مكة، لم يكن وضع المواقيت على ما هو عليه الآن. فلقد كان مسجد الجحفة، مسجداً صغيراً جداً حتىٰ إنّه لم يكن له باب وهيكل مقبول. وكذلك ممرّه كان فيه مصاعب كثيرة، ومبنىٰ قرن المنازل هو الآخر جديدٌ أيضاً.
وإن أعمال التوسعة الحاصلة الآن في المسجد الحرام كلها حديثة، سواء في ذلك المسجد الكبير المضاف إليه أو الأقسام التي تمّ ايجادها في الجهة اليمنىٰ من المسعىٰ.
وقد تمّ ايجاد تغييرات جذرية في عرفات، حيث لم تكن قبل ذلك الكثير من هذه الأشياء، وكان الناس يواجهون صعوبات كثيرة. وكذلك في منىٰ، وبالطبع أن التشجير هنا ليس مثل عرفات. وهناك تحول في الجمرات.
فجمرة العقبة كانت جبلاً خالصاً؛ لم يكن مفتوحاً منه أكثر من قسم واحد حيث كانوا يدخلون من باب واحد ويخرجون من الباب الآخر. إنّ هذه هي مجموعة التغييرات التي كانت ملموسة بالنسبة لنا، وهناك أماكن كثيرة أخرىٰ أعدمت ولم يبقىٰ منها أثر.
الميقات: من الطبيعي أنَّ كلَّ الذين يتشرّفون بالحجِّ لديهم طموحات وحاجات يطلبونها من اللّٰه تعالى، والكثير منها يحظىٰ بالاستجابة، هل لكم أن تحدثونا عما طلبتموه من اللّٰه تعالى أثناء سفركم إلى مكة أو المدينة، وهل حظيت هذه الطلبات بالاستجابة أم لا؟
ج: أنَّ أهم ما يطلبه الحاجّ في هذا السفر المعنوي، بل يجب أن يكون مأربه الوحيد هو «اللّٰه» فقط. فلا ينبغي للإنسان أن يحجَّ بيت اللّٰه ويطلبَ شيئاً غير اللّٰه، وإذا ما توجه الحاجّ للّٰهفقط سيكسبُ كلَّ شيء (ماذا فقدَ مَنْ وجدكَ وماذا وَجَدَ مَنْ فقدك) .
لقد سعيتُ على الدوام أنْ لا أطلب من اللّٰه نعماً ماديّةً، ولا أتذكر أنني قد طلبتُ من اللّٰه أموراً تتعلق بحياتي الشخصية إلى الآن، وبالطبع فقد دعوتُ للأصدقاء والأقارب.
فما طلبته من اللّٰه أثناء هذه الأسفار الأربعة الأخيرة كان بخصوص الأمور الاجتماعية، وبخصوص الأمور المتعلقة بالحجِّ.
الميقات: إنَّ حجاجنا يمثّلون طبقاتٍ مختلفةٍ وبعضهم بما يمتلكونه من قناعاتٍ سابقةٍ أو بسبب عدم امتلاكهم للتعليم الصحيح في مجالات التعامل فهم يخلقون المصاعب، فما هي توصياتكم إلى حجاج بيت اللّٰه الحرام في هذا المجال باعتباركم أميراً للحاجّ؟
ج: المسألة الأولى التي يجب على كلِّ حاجٍ الاهتمام بها، هي أنَّ الحجّ فرصةٌ استثنائية ووجيزةٌ جداً ولعلّها لا تحصل لأغلب النّاس إلا مرّة واحدةً مدىٰ عمرهم، لهذا فمن أجل أن ينتفع الحاجُّ بهذه الفرصة القصيرة والاستثنائية والثمينة غاية الانتفاع؛ يجب عليه أن يخطّط لنفسه قبل شهورٍ من الحجِّ في كيفية الاستفادة من الأيام واللّيالي واللحظات التي تمرّ خلال هذا السفر الإلهي.
وللأسف فإنَّ قسماً من حجاجنا وبسبب الإهمال وعدم التخطيط يصطدمون بأجواءٍ خاصةٍ بحيث لا يعرفون ماذا يفعلون ولا يلبثون حتى يجدوا أنَّ هذه الأسابيع المعدودة قد انصرمت! ولم ينتفعوا بها الانتفاع اللازم. فلو كانوا قد سَعَوْا كثيراً لتمكنوا مثلاً من أداء أعمال الحجّ بصورةٍ صحيحة، وطبعاً هذا مهمّ جداً، لكن لابدّ للحاج من أن يُحدِثَ تغييراً في وضعهِ خلال هذه الأيام، وأن تظهر في روحهِ وباطنهِ ثورةٌ. فقد ورد في الروايات أنَّ الحجَّ يُطهّر الإنسان من الأدران. فالإنسان يتطهر طهارةً واقعيةً عندما تحصل في ذاتهِ الثورةُ، وأنْ يشعر بالاستنارةِ والمعنوية.
إنَّ الكثير من حجّاج بيت اللّٰه يهدرون وقتهم في التجوّل بالمتاجر أو الأعمال التافهة وأحياناً في الأعمال الضّارة ، بسبب عدم الانتباه إلى هذا المعنىٰ أو بسبب التخبط.
يقول القرآن الكريم:
«قل هل نُنَبّئُكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً» 29.
يتصورُ البعض أنه يقوم بأعمالٍ حسنةٍ، بينما هي مضرةٌ للغايةِ بالنسبة للنظام الإسلامي وللإسلام أيضاً وبالتالي فهي مضرةٌ لهم جداً.
ففي المكان الذي يسوده مذهبٌ غير المذهب الشيعي يجب أنْ نتصرّف بنحو لا يؤذي الآخرين، فنحن هناك نمثل الإسلام الأصيل فإذا لم يؤدِ حجاجنا الصلاة في أوّل وقتها، واذا تواجدوا خارج المسجد الحرام أثناء وقت الصلاة، أو خارج مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو المساجد القريبة من البيوت، أو تواجدوا في السوق وارتكبوا عملاً مخالفاً يلحقُ ضرراً جسيماً بالإسلام والجمهورية الإسلامية فإن ذلك كله يعتبر من الذنوب كما أنه يُعطي فرصة للآخرين لذمنا، فكلُّ ذلك ناجمٌ عن الإهمال وعدم التخطيط.
على حجاج بيت اللّٰه المشاركة في المجالس التي تُعقد لتعليم مراسيم الحجّ قبل أشهرٍ من سفرهم، والعلماء مكلَّفون كذلك بإقامة هذه المجالس بصورةٍ منتظمةٍ.
لقد سمعتُ أنَّ دروس الحجّ تقام في ماليزيا قبل ستة أشهر من الحجِّ ويشترك فيها الحجّاج، وعندهم مجالس منتظمةٌ للغاية، إضافةً إلى مشاريعهم لتمكين الأفراد على أداء مناسك الحجِّ ولديهم مشاريع جيدة جداً بهذا الخصوص. وباختصار فإننا مكلّفون بإقامة دروس الحجّ قبل أربعة أو خمسة أشهر من الحج، وعلى الحاجّ أن يعتبر نفسه مكلّفاً بحضور هذه المجالس. والنقطة الأخيرة هي أن على الحاجّ أن يغتنم وقته ويخطّط له. فإنَّ أيام الحج أيام مراقبةٍ ومحاسبةٍ دقيقةٍ للنفس فيجب عليه أن يباشر تربية نفسه صباح كلّ يوم بما أعدَّ لنفسهِ من برامج، وأن يسيطر على اللحظات والساعات كي لا يقوم بما لم يخطط له، وإذا قصَّرَ - لا سمح اللّٰه - يستغفر اللّٰه ويصمّم على أن لا يتكرر منه ذلك التقصير كي يستطيع الانتفاع بذلك الجو الملكوتي معنوياً على أفضل وجه.
الميقات سنواتٌ عديدةٌ وأنتم تتحمّلون مسؤولية إمارة الحجيج من قبل ولي أمر المسلمين، وقد أُنجزت أعمالٌ جيدة جداً في المجالات المختلفة للحج على صعيد اختيار العلماء الصالحين الكفوئين والإداريين المتميّزين والمجرّبين، وتأليف الكتب، والنشاطات التعليمية، وتوضيح المسائل المتعلقة بالحجِّ عن طريق الإذاعة والتلفاز. وكذلك على الأصعدة التنفيذية، فقد حقّقت بعثة الحجِّ ومنظمة الحجِّ والزيارة نجاحات باهرةً، فما هو تقييم سماحتكم للوضع الراهن، وما مقدار نجاحكم، وكيف تفكرون بالنسبة للمستقبل؟
ج: على هذا الصعيد من الأفضل أن يحكم الآخرون، ولكن ما استطيع أن أُقدّمه إجمالاً هو: بفضل اللّٰه، ومن خلال الجهود التي بذلها الأصدقاء والزملاء في بعثة قائد الثورة على مدىٰ السنوات الأربعة المنصرمة، يمكننا القول إنَّ التغيير الأساس الذي طرأ في البرمجة والتخطيط والتنفيذ، وما يلاحظ الآن فيما يختصّ بالحجِّ هو نتيجة للمبادرات التي قام بها الإخوة الأعزاء خلال هذه الفترة، وطبعاً فإنّ الإخوة الأعزاء الذين عملوا سابقاً تحمّلوا مصاعب كثيرةً (شكر اللّٰهُ سعيهم) وعملوا ما في وسعهم، وكلُّ ما لدينا هو استمرارٌ لما بُذلَ من جهودٍ سابقاً، ولكن ما كان موجوداً في السابق هو أنَّ الحجَّ كان ذا طابعٍ موسميٍّ حيث توضع الخطط من قبل مجموعةٍ ما في موسم الحجّ ولعلَّه قبل موسم الحج بشهر أو شهرين - ثم يُعطّل، فلم تكن هناك تشكيلات ثابتةٌ - تتابع - المسائل المتعلّقة بالحج على مدار أيام السّنة، أما الآن فقد وفقنا اللّٰه - تعالى - فاستحدثت التشكيلات الثابتة التي تمارس نشاطاتها فيما يتعلق بمسائل الحجِّ على مدىٰ أيام السنة، وفي جميع المجالات أيضاً، سيما مجال البحوث والأمور الثقافية التي يحتاجها الحجّاج أكثر من أيّ شيء آخر، فخلال هذه الفترة تمَّ تأليف ما يقرب من 70 أثراً، واصدار مجلّتين قيّمتين، إحداهما هذه المجلّة «ميقات الحجِّ» باللغة العربية، والأخرىٰ مجلة «ميقات الحجّ الفصلية» التي تصدر باللغة الفارسية، وهذا من الأعمال القيّمة التي انجزت. إنّ استمرار صدور هاتين المجلّتين سيؤدي الى حصول تغييرٍ فيما يرتبط بجميع مسائل الحجِّ على صعيد البحوث، إضافةً إلى التأثير الثقافي والمعنوي الذي تتركانه في أبناء شعبنا، وكذلك يمكن أن يكون لهما التأثير نفسه على شعوب بقيّة الأقطار.
على أية حالٍ، يمكن القول وبعبارةٍ واحدة: إنّ بعثة القائد المعظم استطاعت أن توفّر الأرضية اللازمة لبلوغ الأهداف النهائية للحجِّ في جميع الأبعاد، مع وجود أمدٍ بعيدٍ أو فاصلة بيننا وبين الحالة المرجوّة، إلّاأنّ أعزتنا في بعثة القائد المعظم استطاعوا إعداد الأرضية لبلوغ تلك الأهداف، آملين أن تحظىٰ بقبول اللّٰه تعالى.
الميقات بسبب اهتمام سماحتكم بالتنظيم في جميع المجالات ولحسن الحظ فقد أوجدتم هذا التنظيم في أمر الحجِّ وتوصلتم إلى نتائج ايجابية، فاليوم يذهبُ الحاجُّ إلى الحجِّ معزّراً وهناك يشعر بالعزَّةِ أيضاً، ويؤدي مراسم الحجِّ بالنحو الذي يحظىٰ بقبول البارئ - عزّ وجلّ - وبتلك الأهداف التي أشرتم إليها، ولكن في السنوات الأخيرة تهامست الألسن حول إحالة منظمة الحجّ إلى القطاع الخاص، ونظراً إلى أنَّ القطاع الخاص يسعىٰ إلى الكسب المادّي وقليلاً ما يهتم بالأمور الثقافية. فماذا تقولون بهذا الخصوص، هل توافقون على إحالة الحجِّ إلى القطاع الخاص، وما هو مقدار جديّة هذا الأمر؟
ج: هناك عدّة أمور جديرةٌ بالاهتمام في هذا المجال، الأمر الأول هو أنَّ مسألة إحالة الحجِّ على القطاع الخاص منتفيةٌ على الإطلاق في الظروف الراهنة، لأنَّ لدينا ما يقارب 450 ألف حاج مسجلة أسماؤهم ولا تستطيع منظمة الحجِّ والزيارة اتخاذ أيّ قرارٍ بهذا الخصوص ما لم ترسلهم إلى الحجّ. وهذه المجموعة مسجلةٌ منذما يقارب 10 سنوات ولعل هذا الوضع السائد الآن يستمر خمس سنوات أخرىٰ.
بناءً على ذلك، فإنّ هذه المسألة منتفيةٌ بشكلٍ عامٍ في الظروف الراهنة، وأما ما يحدث في المستقبل فيجب ملاحظة الوضع السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي للبلاد، وما هو رأي المسؤولين في ذلك الوقت؟ وبالطبع لابدّ من أن أقول: إنَّ التجربة التي لدينا بخصوص سوريا ليست بالتجربة الناجحة، أي لم تكن لإحالة زيارة العتبات المقدسة في سوريا للقطاع الخاص ذات نتيجة جيدة، وأما الفائدة الوحيدة التي تركتها، هي أنّها نفعت الحكومة إلى حدٍ ما من الناحية الاقتصادية، وأما في الجانب الثقافي في الوقت الراهن فضررها كبير جدّاً، ونحن بصدد التقليل من هذه المشكلات والأخطاء والأضرار قدر الإمكان.
علىٰ أيةِ حالٍ، فاذا ما أصبحت هناك خصوصية أو ضرورة لإحالة الحجِّ على القطاع الخاصّ فيجب أنْ يكون أصل العمل بيد الدولة بنحوٍ لا يحصل أيُّ تغييرٍ في البرامج والتنظيم الفعلي، لئلا يكون الوضع كما كان عليه قبل الثورة، فلا يمكن القبول بتلك الحالة بأيِّ شكل لأنه لن يوصلنا الى أهدافنا الثقافية.
الميقات: من خلال اهتمام سماحتكم فإنَّ صفاءً ومحبَّةً خالصةً تسود بين بعثة القائد المعظم ومنظمة الحجّ والزيارة، وكل الأعزاء الذين يعملون في هذين المركزين يعملون بإخلاص وجديّةٍ ومن جانب آخر فإنَّ خصائص خدمة حجاج بيت اللّٰه الحرام تُنمي الحوافز لدى الجميع على الخدمة، وكسؤالٍ أخيرٍ، وددتُ أنْ أرى ما هو طموحكم وتوقعكم من العاملين في مجال الحجِّ؟ وما هي توصياتكم إلى هؤلاء الأعزاء؟
ج: إنَّ طموحي من الزملاء في بعثة القائد المعظم ومنظمة الحجّ والزيارة هو أنْ يلتفتوا إلى أنَّ هذه المؤسسات مؤسساتٌ خاصةٌ لذلك تتعلّق بها آمالٌ خاصة.
فهذه مؤسسات تصبو إلى توجيه مجاميع من المتلهفين لحجّ بيت اللّٰه، إلىٰ مركز الوحي، لتخدم الحجاج إلى جانب بيت اللّٰه ومرقد رسوله صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة الطاهرين عليهم السلام لذا يجب أن تنجز واجبها بنحوٍ مجردٍ عن كلِّ ضعف.
يجب أن تتعطر هذه المؤسسات أكثر من غيرها بعطر الإخلاص للّٰهفلابد من أن يتمتع العاملون في هذه التشكيلات بإخلاصٍ مضاعفٍ، وإذا ارتكبنا تقصيراً - لا سمح اللّٰه - فمن الممكن أن نتعرض لغضبه. يجب أن نبذل كلَّ ما في وسعنا وأن نخدم حجاج بيت اللّٰه الحرام بكلِّ وجودنا. فالحاج الذي يُريد السفر الى الحجِّ يجب أن يكون مرتاح البال. فمع أنَّ الحجّ فيه مشاكل طبيعية إلّاأنَّ ذلك لا يعتبر معذّراً لنا ولا مبرّراً لتقصيرنا. إنَّ المحافظة على بيت المال الذي تضعه الحكومة تحت تصرّفنا لتوفير الراحة للحجاج، هي مسألة حساسةٌ للغاية، حيث يجب مضاعفة الاهتمام بذلك في الجانب التنفيذي، فإنَّ العبثَ ببيتِ المال حتىٰ بقدر ريالٍ واحدٍ أو 1100 من الريال هو ذنبٌ عظيمٌ سيما في الظروف الاقتصادية التي يمرّ بها بلدنا في الوقت الحاضر، فيجب التدقيق في استئجار البيوت ومختلف المشتريات. بل يجب الاحتياط حتى لا تُهدَر ذرةٌ من بيت المال. والحمد للّٰهفقد كان للمسؤولين والعاملين في الحجّ والزيارة جهود حثيثة بهذا المجال على أمل أنْ يتحسَّنَ الوضع يوماً بعد يوم.
أسأل اللّٰه - تعالى - المزيد من التوفيق والتقدم لجميع القائمين على الخدمة في بعثة القائد المعظم ومنظمة الحجّ والزيارة.
الهوامش:
لبّيك قد لبّيتُ لك
أبو نواس
إلٰهنا ما أعدلكْ
مفتاح القلوب
رياض عبيد - لبنان
دمعةُ العشقِ راحةٌ لِمُغالي
* * * يا دياراً، يفوقُ عندي هواها
واعتراني إزاءَ قُدسِكِ لَأيٌ