154وكان سعيد بن عمرو السهمي أوّل مَن بنىٰ بيتاً بمكّة، وقد قيل فيه: وأوّل من بوّا بمكّة بيتَه وسوّر فيها مسكناً بأثافي 1
وكانوا يبنونها بحيث لا تستوي على سقوف مربعة كما نفعل اليوم.
وأول من بنى بيتاً مربعاً حميد بن زهير، وأستهولت قريش عاقبة التربع في هندسة البيت، فقالت:
« ربع حميد بيتاً - اما حياة أو موتاً» 2.
وأول مَن بوّب في مكّة « حاطب بن أبي بلتعة» 3.
وكانوا يجعلون بين يديها العرصات ينزل الحجاج فيها والمعتمرون. ولما شرعوا يصنعون لبعض الدور أبواباً كانوا يقصرون ذلك على بعض غرفها، ويتركون مداخلها شارعة على عرصاتها دون أبواب، وقد قيل إن هند بنت سهيل عندما استأذنت عمر بن الخطاب في أن تجعل على دارها بابين أبى وقال لها:
إنما تريدون أن تغلقوا دوركم دون الحجاج والمعتمرين، قالت: تاللّٰه ما أريد إلا أن أحفظ على الحجاج متاعهم؛ فأغلقها عليهم من اللصوص فأذن لها فبوبتها.
ويستطيع الباحث أن يستنتج: أن العمران في مكّة - في عهدنا الذي ندرسه - نشط نشاطاً كبيراً، بعد أن تركنا المضارب تتباعد على حوافي وادي إبراهيم من أعلى مكّة إلى أسفلها، ثم تعرج في ناحية منها إلى مداخل الشامية اليوم نحو قعيقعان؛ نجدها الآن وقد اتصلت وتكاثفت واتخذت كلُّ قبيلة منزلها من الوادي وشعابه، ولم يزحف عمرانهم إلى مرتفعات الجبال وأكتافها كما نفعل اليوم. . . بل ظل مستوياً باستواء سطح الوادي.
وقد ذكروا أن قصياً خطّ للكعبة ساحة توازىٍ صحن المسجد اليوم، وأباح للناس أن يبنوا دون ذلك حول مدارها من الجهات الأربع، وكانوا لا يبيحون لأنفسهم قبل «قُصيّ» السكنىٰ، أو المبيت بجوار الكعبة. ثم أمرهم أن يجعلوا بين بيوتهم مسالك يفضون منها إلى ساحة الكعبة، وأهم هذه المسالك مسلك شيبة وهو في مكان بني شيبة اليوم، ولم يبوّب ساحة الكعبة أو يسورها، كما أمر بأن لا يرفعوا بيوتهم عن الكعبة لتظل مشرفة عليها؛ وكانوا يتخذون مجالسهم العامة في أفيائها، كما بنى دار الندوة لاجتماعاتهم الخاصة 4.
وفي استطاعتنا أن نرسم خطوطاً تقريبية لخريطة مكّة، نبين فيها باختصار مواقع البطون في مكّة يومها، وسير العمران بين شعابها، اعتماداً على ما ذكره الأزرقي في تخطيطه مواقع القبائل في كتابه أخبار مكّة 5.
ولتوضيح ذلك في الأذهان؛ نستطيع أن نجعل من باب بني شيبة نقطة ابتداء لتخطيطاتهم، فقد كان موضع ارتكاز الحركة العمرانية في أمّ القرىٰ، كما كان أهم مداخل المسجد الحرام، وكانت البيوت تتكاثف حوله متجهة في الشرق إلىٰ «حصوة» باب عليّ، وفي الشمال قليلاً إلى «حصوة» باب السلام، تنزلها بطون غساسنة الشام وبعض السفيانيين، وتتخللها متاجر للعطارين، فإذا مضىٰ بنا الخطّ مستقيماً إلى جهة باب النبيِّ واجهنا بيت العباس، ودار جبير بن مطعم، ودور لبني عامر بن لؤي، واستقام أمامنا زقاق أصحاب الشيرق، وهو إلى جانب زقاق الحجر حيث تقوم دار لابن علقمة، ودور أخرى لآل عدي من ثقيف. فإذا نفذنا من ذلك إلى شارعنا العام في القشاشية 6، متوجهين إلى أعلى مكة استقام أمامنا سوق كانوا يُسمونه سوق الفاكهة، ثم سوق الرطب، ثم رباع كانت لبعض بني عامر، وعند سوق الليل تصافحنا الدار التي كانوا يسمونها دار مال اللّٰه، وكانوا ينفقون فيها على المرضى ويطعمونهم.