57
الحجاز والحَرَمان الشّريفان في القرن الثّالث عشر
تأليف: جعفر شهيدي
لقد كان للشعب الإيراني - ولا يزال بحمد الله - منذ اعتنق الاسلام؛ اهتمام كبير بالمواظبة علي إقامة شعائر هذا الدين الحنيف وأداء مناسكه، والقيام بفرائضه بشوق بالغ وإيمان راسخ وقلب سليم. وأداءُ فريضة الحجّ أَحد هذه المناسك المحببة إليهم، فقد شدّوا الرحال وتحملوا أعباء السفر، واقتحموا المهالك والمخاطر، وجادوا بأموالهم وجاهدوا بأنفسهم عن طيب خاطر، ولذة مفرحة في سبيل الله، وإقامة أركان الشرع الحنيف، وبلوغهم صورة المسلم الكامل.
وكان من الطبيعي - أن نري علي مدي التاريخ الإسلامي - أن يحمل هذا التيار المتصل، عدّة من العلماء والشعراء والكتاب، الذين نالوا هذا الفوز الكبير، وأنهم سجلوا هذه الرحلات، وقيدوا تلك المذكرات ونظموا القصائد عن أسفارهم وما شاهدوه في الطريق، أو من التقوا به، ودار بينهم وبينه الحوار، حول شتي المسائل: من المباحث الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الانسانية، أو ما حلّت بهم من المكاره والأخطار في الطريق، أو من أثر رؤية هذه المشاهد الشريفة في نفوسهم وما تحتويه من رموز التوحيد والاخلاص، أو تعارف المسلمين بعضهم علي بعض. ولما كانت هذه الرحلات أو بعبارة أخري هذه الوثائق والمستندات التاريخية، من شأنها أنها تلقي أضواء علي زوايا تاريخنا الاسلامي، فتمدنا بالكثير من المعلومات الهامة في مناحي العلم المختلفة وخاصة عن الحياة الاجتماعية أو الثقافية أو التجارية، التي كان يقضيها هذا القطر الإسلاميّ الشقيق في ذلك الوقت، هذا مضافاً إلي الناحية الفنية، التي تصورها الصورة الرائعة التي يمثلها الشاعر منهم في قصيدته، أو الأديب في رسائله، مما تهيج الطباع وتهز النفوس، وتخفق لها القلوب. ولعل كثيراً من المطلعين خبير بما نظمه الشاعر الايراني " خاقاني الشرواني " في منظومته التي سماها " تحفة العراقين " التي يصف فيها رحلته إلي مكّة المكرمة؛ فيقدم لنا معلومات من حياة العرب الاجتماعية في القرن الخامس من الهجرة، حيث يصف الركب في ترحاله ونزوله، وموارد الماء التي يُستقي منها للانسان والدواب، ويصف الطبائح ووقوف النوق عليها، والمواقيت والحرمين، ومني وعرفات والمشعر، والكعبة - شرّفها الله - وكسوتها، والحجر والأركان، وزمزم وازدحام الحاج عليها، كما أنه يصف مدينة النبيِّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ومسجد الرسول، وإقامة الجُمعة والخطبة والخطباء، مما يطول بنا ذكره. فيأخذ بيد القارئ ويطوف به في أجواء من عالم القدس، ويريه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فيتوق قلب كل مسلم إلي زيارة هذه الأماكن، ويكاد المستمع يطير إلي الحرمين الشريفين جرياً وراء فؤاده. أو بما كتبه الرحالة "ناصر خسرو القبادياني" الشاعر الفارسي، الذي زار الحرمين الشريفين في القرن الخامس من الهجرة النبوية، حيث يصف لنا المسجدين بأدق صورة، ويبين مساحتيهما، ويصف الكعبة وكسوتها والحجر ومني وزمزم، وشوارع مكة وحماماتها، وسوق العطارين، وعدد سكان البلد، وسعر القمح، والقحط الذي أصاب البلد في تلك السنة.
هذا ولا يخلو كلُّ قرن من القرون من رحلات، أو مذكرات كتبها الرحالة أو الحجّاج من إيران، لم تزل مخطوطاتٍ تخزن في مكتباتنا بطهران ومشهد وتبريز وغيرها من البلدان، مما نتمني - بإذن الله تعالي - أن تقدم في