45وليس في هذا شيء يخالف الاجماع، فليس القول بوجوب الحج في كل عام علي اهل الجدة مطلقاً ليلزم منه في الاحوال العادية ان يكون من حج اولاً من اهل الجدة اذا حج مرةً اخري مؤدياً للواجب الكفائي رغم أن النصوص صرحت بان ما عدا المرة تطوّع، فإنّ هذه النصوص ناظرة الي القضيّة الخارجيّة والاحوال المتعارفة خارجاً، والتي يتقاطر فيها الحجيج الي بيت الله الحرام من كل حد وصوب، وأما نصوص وجوب الحج علي أهل الجدة في كل عام فانما تنظر الي القضيّة الحقيقية إلي أصل وجوب الحج بشكل عام، فهي تنظر إلي الفريضة بطبيعتها وعلي نحو القضيّة الحقيقيّة.
ثم ان مقتضي الروايات الدالة علي حرمة تعطيل بيت الله عن الحجيج الوجوب الكفائي علي المسلمين عامة، وانما قيّد الوجوب الكفائي بخصوص اهل الجدة للادلة الدالة علي التقييد كقوله تعالي: من استطاع اليه سبيلاً. . . وغير ذلك كالرواية التي دلت علي ان الحج فرض علي اهل الجدة في كل عام. وأما في صورة عدم وجود المستطيع، فقد دلت الرواية علي أن من واجب الإمام بذل المال للناس ليستطيعوا فيحجّوا. وهذا يدل علي توجه وجوب آخر علي الحاكم الإسلاميّ يلزمه إقامة هذا الشعار الإلهي العظيم، وهذا من واجبات الحاكم الإسلاميّ وهو خارج عن موضوع بحثنا هنا.
هذا ونختم الكلام في هذا الموضوع بما دل علي عدم وجوب الحج اكثر من مرة من صحيح مسلم باسناده عن ابي هريرة قال: خطبنا رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال: " ايها النّاس قد فرض الله عليكم الحج فحجّوا، فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتي قالها ثلاثاً، فقال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) : لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم علي انبيائهم، فاذا أمرتكم بشيءٍ فاتوا منه ما استطعتم، واذا نهيتكم عن شيء فدعوه " 15.
المسألة الثانية: تجب العمرة علي المستطيع - كالحج - في العمر مرة واحدة، بلا خلاف بين اصحابنا بل ادّعي في التذكرة عليه الاجماع، وقال السيد الخوئي ( ره) كما جاء في تقرير بحثه -: " لا خلاف بين الفقهاء في وجوب العمرة علي كل مكلّف بشرائط وجوب الحج وجوباً مستقلاً كالحج في العمر مرة واحدة، وقد ادعي صاحب الجواهر الاجماع بقسميه علي ذلك " 16.
وقال العلامة في التذكرة: " وبه قال علي وعمروابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير وعطا وطاوُس ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والثوري واسحق والشافعي في الجديد واحمد في احدي الروايتين " 17.
وقاال آخرون: ان العمرة ليست واجبة، وبه قال مالك وابو حنيفة وابو ثور، وحكاه ابن المنذر وغيره عن النخعي 18، قيل: وروي عن ابن مسعود 19، وبه قال الشافعي في القديم، واحمد في الرواية الثانية 20.
دليلنا: بعد الاجماع، من الكتاب قوله تعالي: واتموا الحجّ والعمرة لله 21 فان المراد بالاتمام: الأداء أو الإتيان الكامل غير المنقوص والأمر يدل علي الوجوب فتكون الآية دليلاً علي وجوب كل من الحج والعمرة.
وقد روي في الصحيح عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) في قوله تعالي: واتموا الحج والعمرة لله قال: يعني بتمامهما: اداءَ هما"22
وقد ذكر الزمخشري في الكشاف23 في معني الآية: ايتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. ثم قال: فان قلت: هل فيه دليل علي وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلاّ أمر باتمامهما ولا دليل في ذلك علي كونهما واجبين او تطوّعين، فقد يؤمر باتمام الواجب والتطوّع جميعاً. الا ان نقول: الامر باتمامهما امر بادائمهما بدليل قراءة من قرأ واقيموا الحج والعمرة، والامر للوجوب في اصله الاّ أن يدل دليل علي خلاف الوجوب كما دل في قوله - فاصطادوا، فانتشروا ونحو ذلك - فيقال لك، فقد دل الدليل علي نفي الوجوب وهو ما روي انه قيل "يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: لا، وان تعتمر خير لك" وعنه "الحج جهاد والعمرة تطوّع".
ويرد عليه: ان الامر للوجوب كما ذكر وما استشهد به علي نفي ارادة الوجوب لا يحتج به لقصوره دلالة وسنداً، ولمعارضة باحاديث أُخري رواها اصحاب السنن، والمعارض اقوي سنداً ودلالة، وعلي فرض التكافؤ يتساقط الدليلان المتعارضان وتبقي الآية حجة علي الوجوب.
ام قصور الشاهد - علي نفي الوجوب - دلالة، فلأن النفي في الحديث الأوّل نفي لمثليّة العمرة للحج في الوجوب، فلا تدل علي نفي اصل الوجوب واما الحديث الثاني فليس فيه ما يدل علي نفي الوجوب غير التعبير بالتطوّع، وهو غير صريح في نفي الوجوب.
بل ولا اقوي ظهوراً في نفي الوجوب من ظهور الامر في الآية في الوجوب. فلو سلّمنا ظهور التطوّع في المندوب لزمنا رفع اليد عن هذا الظهور بظهور الآية في الوجوب، لأنّ الآية ذكرت الحجّ الي جانب العمرة ولا شك في وجوب الحج، ولا يستعمل اللفظ الواحد في معنيين باستعمال واحد، لامتناع ذلك، فذكر الحج بنفسه قرينة قطعيّة علي ارادة الوجوب من الامر بالإتمام، فيكون الامر دالاً علي وجوب العمرة ايضاً.
والحاصل ان القرينة الموجبة لرفع اليد عن ظهور ذي القرينة لا بُدّ ان تكون اقوي دلالة من ذي القرينة، وفيما نحن فيه ليس الامر كذلك، فانّ دلالة ذي القرينة وهي الآية علي وجوب العمرة اقوي من دلالة القرينة وهو الحديث المذكور علي نفي الوجوب.
واما قصور الشاهد سنداً فقد روي البيهقي الحديث الأوّل باسناده عن الحجاج بن ارطأة عن محمّد بن المنكدر عن جابر ان النبي (صلّي الله عليه وآله وسلّم) سئل عن العمرة أواجبة؟ قال: " لا وان تعتمر خير لك " قال البيهقي: كذا رواه الحجاج بن ارطأة مرفوعاً وقد اخبرنا ابو عبدالله الحافظ، ثم ذكر اسناده إلي يحيي بن ايوب قال: اخبرني ابن جريح والحجاج بن ارطأة عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه انه سئل عن العمرة اواجبة فريضة كفريضة الحج؟ قال: لا وان تعتمر خير لك - ثم قال البيهقي -: هذا وهو المحفوظ عن جابر موقوف غير مرفوع وروي عن جابر مرفوعاً بخلاف ذلك، وكلاهما ضعيف.
وقد ذكر البيهقي طرق الرواية المذكورة كلّها وقد بيّن أنها جميعاً بين منقطع وضعيف وموقوف24 وقال النووي في شرحه للمذهب: واما قول الترمذي: ان هذا حديث حسن صحيح فغير مقبول، ولا يغتر بكلام الترمذي في هذا فقد اتفق الحفاظ علي انه حديث ضعيف. ثم قال: ودليل ضعفه ان مداره علي الحجاج بن ارطأة لا يعرف إلاّ من جهته، والترمذي انما رواه من جهته، والحجاج ضعيف ومدلس باتفاق الحفاظ، وقد قال في حديثه عن محمد بن المنكدر، والمدلس اذا قال في روايته: عن، لا يحتج بها بلا خلاف. ثم قال: ولان جمهور العلماء علي تضعيف الحجاج بسبب آخر غير التدليس25.
واما الحديث الثاني فقد قال الشوكاني: وفي الباب عن ابي هريرة عند الدار قطني وابن حزم والبيهقي ان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قال: "الحج جهاد والعمرة تطوّع" واسناده ضعيف، وعن طلحة عند ابن ماجة باسناد ضعيف، وعن ابن عباس عند البيهقي قال الحافظ "ولا يصحّ من ذلك شيء" 26.