108
ويقول صاحب الجواهر بعد نقل كلام الاصمعي وآخرين:
ولكن قد يقال: إنّ مرادهم مجرد تفسيرها، وإلاّ فالسيرة علي عدم منعهم من جميع ذلك. وعلي كل حال فقد قيل: إنّها سميت جزيرة العرب؛ لأن بحر الهند وهو بحر الحبشة وبحر فارس والفرات أحاطت بها، وإنّما نسبت إلي العرب لأنها منزلهم ومسكنهم. . . (22) .
ونستعرض فيما يلي أقولاً لياقوت الحموي وابن منظور، لنبادر من ثم إلي التحقيق في هذا البحث:
يقول ياقوت عن الحجاز: جبل ممتدّ حالّ بين الغور غور تهامة ونجد. . . . . وقال الأصمعي: . . . . فمكة تهامية، والمدينة حجازية، والطائف حجازية (23) .
ويقول عن الجزيرة العرب: . . . وإنّما سميت بلاد العرب جزيرة لاحاطة الانهار والبحار بها من جميع أقطارها وأطرافها. . . . . فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوا وتوالدوا فيها علي خمسة أقسام عند العرب:
تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن (24) .
ونقل ابن منظور أقولاً في تحديد جزيرة العرب، منها: أنها ما بين حفر أبي موسي إلي أقصي تهامة في الطول، وأما العرض فما بين رمل يبرين إلي منقطع السماوة. ثمّ يضيف: وقال مالك بن أنس: أراد بجزيرة العرب المدينة نفسها (25) .
التحقيق في المسألة
يتّضح من الروايات وأقول العلماء: عدم جواز سكن الكفار وإقامتهم في الجزيرة العربية والحجاز حسب الفقه الاسلامي، بل يمكن القول: إنّ ذلك من مسلّمات الفقه، والمهم أن نعرف المناطق التي يشملها هذا الحكم.
نقول: إن هذا الحكم حكم خلاف القاعدة وخلاف الأصل، ولهذا يجب الاكتفاء بالقدر المتيقن وحمل العام علي الخاص، والقدر المتيقن هنا مكة والمدينة. وقد خصّص هذا الحكم لهاتين المدينتين؛ كونهما مهبط الوحي ومركز الحكم الإِسلامي، ويتّسمان بقداسة خاصة، ولا يمكن تعميم هذا الحكم علي غير الحرمين الشريفين لا سيما في الفقه الشيعي؛ لأن الدليل علي هذا الحكم (التعميم) أمران:
1- الإجماع الذي ادعاه العلاّمة الحلّي.
2- بعض الأحاديث القاصرة من حيث السند، أو من حيث الدلالة.
الاجماع الذي ادعاه العلاّمة الحلّي في كتابيه إجماع منقول، والأهم من ذلك أنّ دليل الإِجماع: هو حديث مروي عن ابن عباس بطرق العامة (ذكرنا نصه سابقاً) ، ولا يمكن لمثل هذا الإجماع أن يثبت شيئاً، وبفرض قبول الاجماع وتأييده بالسيرة القطعية - التي يمكن استفادة الإجماع أيضاً منها حسب صاحب الجواهر - نقول: إنّ العلامة ادعي الاجماع حول الحجاز فقط وليس جزيرة العرب، ومن الشائع إطلاق الحجاز علي مكة والمدينة، فيلزم الاكتفاء بذلك لأن الحكم خلاف الأصل.
أمّا الروايات الواردة في المسألة في الكتب الروائية الشيعية، فان رواية اُمّ سلمة، هي الوحيدة التي جاء فيها ذكر جزيرة العرب، وقد نقلها صاحب الوسائل عن مجالس ابن الشيخ أبي أمالي الطوسي، والكثير من رواتها مجهولون، وبعضهم لم يرد اسمه في كتب الرجال، ويعتقد أنّها نفسها المروية عن ابن عباس بطرق العامة.
تبقي الروايتان المذكورتان بطرق الخاصة واللتان ثبتناهما سابقا (رواية علي بن جعفر، ورواية دعائم الاسلام) ، فرغم انه يمكن القبول بهما من حيث السند وخاصة رواية علي بن جعفر المذكورة في تهذيب الشيخ، لكن دلالتيهما علي إخراج الكفار من كلّ الجزيرة العربية أو حتي الحجاز ممنوعة، لأنّ رواية علي بن جعفر تمنع سكن الكفّار في دار الهجرة فقط وهي المدينة، فيما ذكرت رواية دعائم الاسلام دار الهجرة والحرم، أي المدينة ومكة.
وبالطبع يستفاد من الآية الكريمة:
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام (26) في حرمة دخول المشركين إلي مكة، لا كما احتمل البعض من أن مكة كلها يمكن أن يطلق عليها المسجد الحرام (27) ، وإنما لقوله: لا يقربوا، والدخول إلي مكة يعني الاقتراب من المسجد الحرام.
رغم أننا نحتمل بأن هذه الآية لاتتعلق بدخول المشركين إلي مكة أو سكناهم فيها، وإنما نزلت في مقام منعهم من الاشتراك في مناسك الحج التي نُفّذت منذ السنة التاسعة للهجرة وبعد إعلان سورة براءة، بواسطة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .