14و قبل أن يدخل الحاج الميقات يعيش كما يعيش سائر الناس متمايزين،منفصلين،ولل- (أنا) تمييز وتشخيص،ولل- (أنا) تظاهر وبروز في حياتهم،ولل- (أنا) سماته ومعالمه الواضحة في حياتهم،فإذا دخل الميقات تضاءل (الأنا)،وخفّ صراخه وصوته،وفقد جملة من معالمه ومميّزاته،وفقد لونه وصيغته الصارخة؛وهذا الانقلاب في الشخصية ينبغي أن يتم في (الميقات)،ويرمز إلى هذا الانقلاب (لباس الإحرام)،وقد قلنا إنّ الحج يعبر عن المعاني والمفاهيم التي ينطوي عليها بلغة الرمز.
عند الميقات يتجرّد الحاج من كل ملابسه،وما تحمله ملابسه من سمات شخصية،وطبقية،وقومية،وإقليمية.إنّ لباس الإنسان يحمل هوية الإنسان،ويحمل الإشارة إلى شخصية الإنسان وانتمائه القومي،والإقليمي،والعشائري،وطبقته،ومهنته،ودرجته في الثراء والفقر،والمستوى الاجتماعي.
فإذا بلغ الحاج الميقات تجرّد عن ملابسه،ولبس ثياب الإحرام إزاراً ورداء...قطعتين من القماش،لم يستعمل فيهما الخيط كالآخرين،على نحو سواء،في غير بذخ،ولا ترف،ولا تمييز،وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته،وتعبر عن شخصيته؛إنّ هذه الخطوة الأولى في الميقات تعبّر عن تجرّد الإنسان عن هويته،وشخصيته،وأنانيته،وعن عبور الذات وتجاوز (الأنا).
و كما يُجرّد الميّت عن ملابسه،لأنّ دور الأنا في حياته قد انتهى،ولميعد للأنا حجم ولا دور،لا شكل في المرحلة الجديدة من حياته،كذلك الميقات،يتجرد فيها الحاج عن هويته و ذاتيته،وكأنّ الميقات مصفاة،وأول شيء تأخذه هذه المصفاة من الإنسان هو ذاته،فإذا تجرد عن الأنا،وانسلخ عن ذاته أو حاول ذلك،حقَّ له أن يتجاوز الميقات إلى الحرم،وما لم يتخلّص الإنسان عن ذاته،فلا يتمكّن أن يواصل الرحلة إلى لقاء الله...فإذا خلص في هذه المصفاة من ثقل الذات اجتاز