58إنّه لمّا ظهرت آثار انتصار جيش علي(ع) وكان مالك الأشتر قائد الجيش بمقربة من خيام معاوية، فلجأ معاوية بإشارة من عمرو بن العاص إلى مكيدة أثّرت في جيش عليّ. وأمّا ما هي المكيدة؟ فهي أنّهم ربطوا المصاحف على أطراف رماحهم وكان بينهم خمسمائة مصحف ونادوا: الله الله في نسائكم، وبناتكم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم، إنّك أنت الحكيم الحقّ المبين. وعندئذ اختلف أصحاب علي في الرأي فطائفة قالت بالقتال، وطائفة مالت إلى المحاكمة إلى الكتاب وأنّه لا يحلّ لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب. وقد أثّرت تلك المكيدة في همم كثير من جيش عليّ ولم يقفوا على أنّها مؤامرة ابن النابغة وقد تعلّم منه ابن أبي سفيان، وإنّها كلمة حقّ يراد بها باطل وأنّ الغاية القصوى منها إيجاد الشقاق والنفاق في جيش عليّ(ع)، فلمّا رأى(ع) تلك المكيدة وتأثيرها في السذّج من جيشه قام خطيباً وقال:
«أيّها الناس أنا أحقّ مَن أجاب إلى كتاب الله ولكن هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن» . وقد كان لخطاب علي أثر في قسم كبير من جيشه، ولكنّه فوجئ بمجيء زهاء عشرين ألفاً مقنّعين بالحديد شاكي سيوفهم وقد اسودّت جبهاهم من السجود ويتقدّمهم عصابة من القرّاء - الذين صاروا خوارج من بعد - فنادوه باسمه لا بأمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله، إذا دعيت وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فوالله لنفعلنّها إن لم تجبهم.
وبعد محادثات كثيرة بين علي وبينهم لم يجد الإمام بدّاً من قبول التحكيم، وصارت النتيجة أن بعث عليّ قرّاء أهل العراق وبعث معاوية قرّاء أهل الشام حتى ينظروا ويحكموا ويحيوا ما أحياه القرآن وأن يميتوا ما أماته القرآن.
ولمّا تمّت الاتّفاقية بين الطرفين جاء الذين حملوا عليّاً على الرضا بالتحكيم، زاعمين أنّ التحكيم على خلاف القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ فحاولوا أن يفرضوا على عليّ نقض الميثاق ورفض كتاب الصلح، وقالوا: إنّ التحكيم كان منّا زلة حين رضينا بالحكمين فرجعنا وتُبْنا، فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا وإلاّ برأنا منك، فقال علي: «ويحكم، أبعد الرضا (والميثاق) والعهد نرجع؟ أو ليس الله