2
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يأتي المرء بجديد إذا ذهب إلى القول بأن الحقبة الزمنية التي شهدت البعثة المباركة لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله و سلم و سنوات عمره المعطاءة القصيرة كانت تشكل بحد ذاتها إنعطافا رهيبا و تحولا كبيرا في حياة البشرية في وقت شهد فيه الخط البياني الدال على مدى الإبتعاد المتسارع عن المنهج السماوي و شرائعه المقدسة انحدارا عميقا و ترديا ملحوظا أصبح من العسير على أحد تحديد مدى انتهائه و حدود أبعاده.
بلى،ان مجرد الاستقراء المتعجل لأبعاد التحول الفكري و العقائدي في حياة البشرية عقيب قيام هذه الدعوة السماوية في أرض الجزيرة المسترخية على رمال الوهم و الخداع و سيل الدم المتدافعيكشف و بلا تطرف و محاباة عظم ذلك التأثير الإيجابي الذي يمكن تحديد مساره من خلال رؤية التحول المعاكس في كيفية التعامل اليومي مع أحداث الحياة و تطوراتها،و بالتالي في فهم الصورة الحقيقية لغاية خلق الإنسان و دوره في بناء الحياة.
كما أن هذه الحقائق المجسدة تكشف بالتالي عن عظم الجهد الذي بذله صاحب الرسالة صلى الله عليه و آله و سلم في تحقيق هذا الأمر و تثبيت أركانه،في وقتشهدت فيه البشرية جمعاء ضياعا ملحوظا في جميع قيمها و معتقداتها،و خلطا و تزييفا مدروسا في مجمل عقائدها و مرتكزات أفكارها،كرس بالتالي مسارها المبتعد عن الخط السماوي و مناهجه السوية،و ان أي استعراض لمجمل القيم السائدة آنذاكو التي كانت تشكل المعيار الأساسي و المفصل المهم الذي تستند إليه مجموع السلوكيات الفردية و الجماعية و تشذب من خلالهيكشف عن عمق المأساة التي كانت تعيشها تلك الامم في تلك الأزمنة الغابرة.
فمراكز التشريع الحاكمة آنذاكو التي تعتبر في تصور العوام و فهمهم مصدر القرار العرفي و الشرعي المدير لشؤون الناس و المتحكم بمصائرهم و مسار تفكيرهمتنحصر في ثلاث مراكز معلومة أركانها الإساسية:اليهود بما يتملكونه من طرح عقائدي و فكري يستند إلى ثروات طائلة كبيرة،و الصليبيون بما يشكلونه في قوة مادية ضخمة تمتد مفاصلها و مراكزها إلى أبعد النقاط و الحدود،و أصحاب الثروة و الجاه من المتنفذين و المتحكمين في مصائر الناس .
و من هنا فإن كل الضوابط الأخلاقية و المبادىء العرفية و العلاقات الروحية و الاجتماعية كانت تخضع لتشذيب تلك المراكز و توجيهها بما يتلائم و توجهاتها التي لا تحدها أي حدود .
إن هذه المراكز الفاسدة كانت تعمل جاهدة لأن تسلخ الإنسان من كيانه العظيم الذي أراده الله تعالى له،و دفعه عن دوره الكبير الذي خلق من أجله عند ما قال تعالى للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة بل تعمل جاهدة لأن تحجب تماما رؤية هذه الحقيقة العظيمة عن ناظر الإنسانليبقى دائما بيدقا أعمى تجول به أصابعهم الشيطانية لتنفيذ أفكارهم المنبعثة من شهواتهم المنحرفة.
و أما ما يمكن الاعتقاد به من بقايا آثار الرسالات السابقة،فلا تعدو كونها ذبالات محتضرة لم تستطع الصمود أمام تيارات التزييف و الكذب و الخداع التي مسخت صورتها إلى أبعد الحدود .